لا إكراه في الدين
تحرير الاخت الفاضلة أم سيد رضا
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم )).
هذه الآية المباركة هي احدى الآيات التي تقرأ على أساس أنها من جملة آية الكرسي، آية الكرسي هل هي واحدة ام هي ثلاث آيات؟ فهذا محل خلاف بين الفقهاء والمفسرين، فهناك رأي يقول أن آية الكرسي هي واحدة ويدل على ذلك هو الإفراد في الآية وهي التي فيها لفظ الكرسي في قوله: (( وسع كرسيه السماوات والأرض ))، فهذه الآية هي آية الكرسي بناءً على هذا الرأي.
هناك رأي آخر يقول أن الآية هنا ليست للإفراد وإنما جنس الآيات يشار إليه بآية، مثال لو قلنا (امرأة) فليس المقصود هنا امرأة واحدة وإنما جنس المرأة، وهنا أيضاً معنى الآية هو جنسها وبالتالي فإنها تنطبق على الواحدة والإثنتين والثلاث، ولذلك بعض الفقهاء احتاطوا حتى لا يحصل الإشتباه كما هو الحال عندما صنع السيد اليزدي أعلى الله مقامه في قضية قراءة آية الكرسي في صلاة الهدية التي تهدى للمتوفى بعد دفنه، فإن ركعتيها تحتويان على آية الكرسي ولذك قال السيد اليزدي أن الأحتياط هو أن يقرأ آية الكرسي إلى قوله: (( وهم فيها خالدون ))، أي الآيات الثلاث.
بناءً على الرأي الثاني فإن آية الكرسي هي واحدة من آيات ثلاث، آية الكرسي كما يعرف الأخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات أنها حظيت بمكانة كبيرة في لسان الروايات وجاء في فضلها شيء كثير، فنجدها في كثير من الصلوات المستحبة ونجدها أيضاً كذكر من الأذكار التي يستفاد منها للحفظ من الأذى والأعداء ولطلب التوفيق وللعلاج وغير ذلك، ويكفينا ما جاءت به الروايات أنه من قرأ آية الكرسي مئة مرة كان كمن عبد الله تعالى طيلة عمره.
إذا وجدنا أن ذكراً من الأذكار أو آية من الآيات أو سورة من السور أو دعاء من الأدعية قد تم التوجيه إليه والتركيز فيه بشكل مكثف فلابد أن نفكر في السر الموجود في تلك الرواية أو تلك الآية أو ذلك الدعاء ولماذا حظي هذا الذكر بهذه المكانة الكبيرة، فمثلاً الصلاة على محمد وآل محمد يعتبر من الاذكار التي تمت العناية بها عناية كبيرة لأنه يراد ربط المؤمنين بهذه القيادة الدينية الإلهية المصطفاة حتى يكونوا حاضرين في نفوس المؤمنين جميعاً وفي حياتهم لحظة بعد لحظة وساعة بعد ساعة.
لماذا حظيت سورة التوحيد ( قل هو الله أحد ) بهذا الإهتمام المضاعف والمركز؟ لأنها خلاصة الصفات الإلهية جماليةً وجلاليةً، فنجد أن خلاصة وصفوة الصفات الإلهية والأسماء الحسنى الربانية تتلخص في سورة التوحيد.
لماذا سورة الفاتحة أصبحت أم الكتاب ولا بد من أن تقرأ في الصلوات؟ لأنها كما قال بعض العلماء فيها خلاصة مطالب القرآن ومعانيه التي يريد تركيزها في الإنسان.
لماذا التسبيحة الكبرى ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ) حظيت بهذه المكانة والإهتمام؟ فلو فكرنا في معنى كل كلمة فيها لوجدنا السبب في ذلك.
كذلك فإن نفس الكلام ينطبق على آية الكرسي، فتوجد فيها معاني ومضامين كبيرة جداً وواسعة ومفصلة ولقد قام أحد أعاظم خطباء عصرنا الحديث وهو العلامة الشيخ محمد تقي الفلسفي تغمده الله بالرحمة وأسكنه فسيح الجنة ولعله أعظم خطيب باللغة الفارسية في هذا العصر الحديث قد بحث حول آية الكرسي على مدى شهر كامل بشكل مفصل ونجد ذلك في كتاب له يحتوي على 700 صفحة، وسنتحدث فقط في جزء من آية الكرسي بإعتبار أنه قد يُستفاد منه حكم من الأحكام الشرعية.
(( لا إكراه في الدين ))، هناك عدة احتمالات في معنى هذه الآية وهي:
1 – الإحتمال الأول: أن الدين لا يحصل بالإكراه، فالدين إلتزام نفسي وعقد قلبي ولهذا فإنه لا يمكن أن يحصل بالإكراه أو القهر أو الجبر، فقد يستطيع الإنسان أن يجبر شخصاً آخر بفعل أي شيء لكنه لا يستطيع أن يجبره على أن يحبه بقلبه مهما فعل لأن القلب لا يتحرك بالقهر والجبر والإكراه، لذلك فإن الله يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقول له: (( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ))، بالرغم من أن دين الإسلام هو الدين الحق وأن النبي مبعوث لذلك لكن طبيعة الدين لا يكون بالإكراه سواء كان دين حق أو دين باطل، ففي بعض المجتمعات تقوم السلطة القائمة وتكره الناس وتجبرهم بأن يصبحوا على دينها وقد يطاوعونها بألسنتهم ومظاهرهم ولكن قلوبهم تكون منعقدة على شيء آخر.
بناءً على هذا الإحتمال الاول فإن الآية المباركة تريد أن تقرر حقيقة من الحقائق وهي أن الدين من الأمور التي لا ينفع فيها الإكراه ولا الجبر.
2 - الإحتمال الآخر: أن من مواصفات هذا الدين أنه لا يوجد فيه إكراه ولا أحكام قائمة على الإكراه كما أنه لا يوجد فيه حرج ولا ضرر، فقد قال تعالى: (( وما جعل عليكم في الدين من حرج )) وقوله: (( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ))، فنفس التشريع عندما أنزله الله سبحانه وتعالى لم يجعل فيه الأحكام الإكراهية، فالمعنى الآخر للآية هو أنها تشير إلى صفات التشريع الديني الإلهي.
3 – الإحتمال الثالث: أنه لا يجوز الإكراه في الدين ولا تقع آثاره ولا تترتب عليه أيضاً، أي أن الإكراه منفي ومحرم ومرفوض ولا يجوز أن يكره أحد أحداً آخر بغير حق ولو أكرهه على شيء لم تترتب آثار ما أُكره عليه، مثل لو أن شخصاً شاباً حديث الزواج قد أراد زوجته نهار شهر رمضان وقام بتهديدها تارةً بالطلاق وأخرى بالضرب والإيذاء وما شابه ذلك، فإنها تكون حينها قد أُكرهت على هذا الأمر، فنجد أن هذا الشخص مأثوم لأنه أكره زوجته بغير حق وهذا مرفوض وغير جائز.
الحالة الطبيعية أن الإنسان عندما يفطر في نهار شهر رمضان فإنه يستحق الإثم ويقضي الصوم وعليه الكفارة إذا كان متعمداً في الإفطار، ولكن هنا بما أن هذه المرأة مكرهة على الإفطار فلا يترتب عليها إثم لأن في حالة الإكراه ترتفع الآثار المترتبة على الإفطار العمد من الإثم والكفارة وإنما إثمها وكفارتها وتعزيرها على المُكرِه، فيعزر ويجلد بخمس وعشرون سوطاً عنه وخمس وعشرون سوطاً آخر عنها، فالآية المباركة تريد أن تقول بناءً على هذا الإحتمال الثالث أن الإكراه بغير حق ممنوع ومحرم وغير جائز ولا تترتب آثار الإكراه عندما يكره الإنسان على شيء.
مثال آخر: لو أن شخص متسلط وجبار استدعي شخصاً مؤمناً وأعطاه مبلغ مالي زهيد ليخرجه من بيته غصباً عنه وسيخرجه بالقوة إن رفض ذلك فخرج هذا الشخص من بيته مكرهاً، فنا يكون هذا الظالم المستبد قد ارتكب حراماً وأن هذا البيت لم ينتقل إليه بوجه شرعي ولذلك لا يجوز شراء هذا البيت إن عرضه هذا الظالم للبيع لأنه ليس ملكه ولم تترتب عليه آثار الملكية، فبعض الفقهاء هنا يفرقون في تعبيراتهم بين الإكراه والإلجاء ( الإجبار )، فلو أن أحدهم أتى بشخصين وقال لأحدهما أن يشرب الماء في نهار شهر رمضان أو أن يقتله إن لم يشرب فهذا يعتبر إكراه، ثم قام بالإمساك بالشخص الآخر وربط يديه وأشربه الماء فهذا يعتبر إلجاء (إجبار)، ففي الحالة الأولى وهي الإكراه يجب على الشخص المكرَه القضاء ولكن لا يكون مأثوماً وليس عليه كفارة، بينما في الحالة الثانية وهي الإجبار لم يبطل صومه وليس عليه القضاء وليس عليه الكفارة ويستطيع ان يكمل صومه في هذه الحالة.
هناك نوعان من الإكراه:
1 – إكراه بغير حق وهو الذي تحدثنا عنه وهو غير جائز وغير نافذ الآثار.
2 – إكراه بحق وهو جائز وتمضي آثاره وتنفذ: فلو أن شخصاً مديوناً وغرماؤه حاضرون ويطالبونه بتسديد الديون التي حل وقتها فقال لهم ذلك الشخص أنه لا يملك المال للتسديد الآن ولكنه في الحقيقة يمتلك أراضٍ وعقارات وبساتين يستطيع بيع إحداها وتسديد ما عليه من الديون لكنه رفض ذلك، فهنا عندما يرفع الغرماء الذيم يطالبونه بالمال أمرهم إلى المحكمة فعلى الحاكم الشرعي أن يستدعيه و يطالبه بالتسديد ويستطيع إكراهه إن رفض التسديد، وهذا يعتبر إكراه بحق وينتقل هذا المال إلى هؤلاء الأشخاص بطريقة شرعية ولهم حق التصرف فيه بعد ذلك.
مثال آخر: لو أن شخصاً له زوجة ولا يعطيها نفقتها ولا يقاربها ويؤذيها ويضربها فرفعت أمرها إلى الحاكم، فطالبه الحاكم بما أمر الله سبحانه وتعالى فإمساك بمعروف او تسريح بإحسان ولكن هذا الشخص رفض القيام بحق هذه المرأة، فهنا إما أن تصبر المرأة على زوجها أو أن يكرهه الحاكم على القيام بحقها وإن رفض ذلك فعلى الحاكم أن يكرهه على الطلاق فإن رفض هذا الرجل أن يطلقها فهنا يستطيع الحاكم أن يأتي بفقيه مجتهد ليقوم بأمر الطلاق بعد أن يمر بتلك المراحل كلها وهذا يعتبر إكراه بالحق والفاعل غير مأثوم.
فالدين ليس من الأمور التي يكره عليها الإنسان خصوصاً إذا تبين له الهدى وتبين له الضلال، فالدين الذي تبين فيه الرشد والمعاني السامية لا يحتاج إلى إكراه لأنه جاء لكي يرفع حالات الجبر والقسر والإكراه عن الناس جميعاً.
نجد في صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه يضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فيرفع عنهم القيود والذلة والإستعباد والإستبداد والإكراه والقهر والتسلط وهذا دور الأنبياء جميعاً، فقد جاؤوا ليرفعوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد فيعطوا الإنسان الكرامة والإنسانية ويشعرونه بذاته ويحفظون له حقه وحريته ولوا أدى ذلك لأن يلقوا الأذى والعناء والعنت في سبيل ذلك، ولنا في الحسين الشهيد عليه السلام خير عبرة ومثال فإنه ضحى بنفسه الشريفة من أجل حرية الناس وكرامتهم ومن أجل أن لا يتسلط المستبدون والمستعبدون على رقاب الناس وبهذه الطريقة أنجى الدين وأنقذه، فقد كان الدين أشبه بجثة مريضة في طريقها إلى الموت، فقالوا على الإسلام السلام إذا بليت الأمة براع مثل يزيد فجاء هنا دور الإمام الحسين عليه السلام بعدما رأى أن الدين يعاني بهذه الطريقة كما قال الشاعر:
|