السمو الأخلاقي في صراعات أمير المؤمنين علي عليه السلام
كتابة الأخت الفاضلة مها السيهاتي
نشير هنا إلى موضوع النّبل الأخلاقي في صراعات أمير المؤمنين علي صلوات الله وسلامه عليه .
لقد كان أمير المؤمنين مدرسة متشعبَة الأبعاد لامتناهية الحدود في المناقب والأخلاقيات . وعلينا نحنُ كمُحبيه وتابعيه أن نستجلي في كل موقف من مواقف حياتنا درساً وعبرة من هذا الإمام العظيم .
ومن ذلك أخلاقيات الصراع الذي خاضها الإمام علي عليه السلام والتي تنوعت مابين صراعات سياسية وأخرى عسكرية في إطار النبل والمناقبية ، ونظرا لأن الإنسان في حياته قد يخوض أنواعاً مختلفة من الصراعات أو قد يضطر لخوضها فإنه يحتاج أن يمثل صورة أمير المؤمنين ع في صراعاته التي فرضت عليه حتى يقتدي بأخلاقه قولاً وفعلاً.
وقد تكون تلك الصراعات على الصعيد الأسري كالخلاف بين الزوجين أو أحد الأبناء أو العائلي كالإختلاف بين الأقارب أو على الصعيد الإجتماعي في قضايا دنيوية أو دينية بين مذهبين أو طائفتين مختلفتين كالتسنن والتشيع أو السلفية والصوفية وقد يختلف أبناء الطائفه الواحده في طرق العمل وأساليب التغير .
فهذا يعتقد أن الطريق إلى اليمين موصلٌ إلى الهدف وذلك يعتقد أن الطريق إلى اليسار هو الموصل للهدف فينشأ الصراع والخلاف.
والمهم هنا أنه هل لتلك الصراعات والنزاعات ضوابط وأخلاقيات وحدودا تحكمها؟
فدعونا نستقرِئ هذة الحياة المباركة والكلمات النيّرة ونتطلّع على تلك المواقف العلوية علّنا نهتدي فيها إلى صراطِ الحقّ الذي عيّنه أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام.
هناك عدة أمور هامة جعلها الإمام بمثابة مبادئ عامة تحكم الاختلاف والصراعات بين الناس.
١/المبدأ الأول : لا تبادر للصراع
يتمثل في قوله لابنه الحسن عليهما السلام: لاَ تَدعُوَنَّ إِلَى مُبَارَزَةٍ ليقتتلا."وَإِنْ دُعِيتَ إِلَيْهَا فَأَجِبْ، فَإِنَّ الدَّاعِيَ إِلَيْهَا بَاغٍ، وَالبَاغِيَ مَصْرُوعٌ (2).
أي لا يكون بدء المعركة وإثارة الفتنه وإشعال النزاع من قبَلِك لأن في ذلك دعوة للمبارزة والصراع والخلاف والتحدّي وهذه العقلية مرفوضة عند أمير المؤمنين ع .
فلاتكن بتلك العقلية أيها الزوج حينما ترجع إلى منزلك وتجد الزوجة متقاعسه عن بعض المسؤوليات لظروفٍ ما ، لاتدع للمبارزة والتحدي حتى يشتعل فتيل النزاع بينكما ويتضرر الأولاد من جَرّاء ذاك فتظن أنك الأقوى والأقدر فتمارس عليها استبدادك وقسوتك واستضعافك لها .
أو لاتدع لمبارزة بين قريبٍ لك على أمرٍ قديم اختلف عليه آبائك ومازلت تود متابعة ذلك الخلاف .
فالداعي إلى المبارزة هو من يعلن البغي لا الصلح حين يفشي السلام في تحية الإسلام الذي يبادر بها المسلم الحق قولا وفعلا ، فعندما نقول السلام عليكم ذلك يعني أننا نعلن السلام والإنسجام والهدوء ونرفض الحرب والمبارزة والخلاف والتحدي ونرفع راية السلام والمحبة على شيء نواجهه أو نلقاه .
فإذا كان هذا شعارك أخي المؤمن ينبغي أيضاً أن يكون عملك تابعاً له .
وأما أن تقول السلام عليكم وأنت تُعلن الحرب وتبتدئ بالعنف والمبارزة فهذا يعني أنه لاقيمة لذلك الشعار الذي جُعل تحية المسلمين وجُعِل إسماً من أسماء الله عزّ وجلّ وأيضا جُعلت الجنة داراً له فهي دار السلام.
إذن مبدأ (( لاتدعوَنّ إلى مُبارزة)) يُعد أول مبدأ عام من مبادئ السمو الأخلائي في الصراعات .
نجد ذلك جليّاً في مواقف أمير المؤمنين عليه السلام سواءاً كان من الناحية السياسية أو الإجتماعية أو الدينية فكان يعلُن الحب والسلام والإنسجام وإن دُعي للحرب فهو يتجنبّها قدر الإمكان .
كما فعل عليه السلام في غزوة الخندق حينما استطاعت مجموعة من العدو عبور الخندق، وكان من بينهم عمرو بن عبد ودٍّ العامري ، فراح يصول ويجول، ويتوعَّد ويتفاخر ببطولته، وينادي: هل من مبارز؟ فلم يجبه أحد حتّى قال: ولَقَدْ بُحِحْتُ من النداء ... بجمعكم هَلْ مِنْ مُبارزْ... وَوَقفْتُ إذ جَبنَ المُشَجَّعُ... مَوقفَ البَطَل المناجِزْ... إنّي كذلك لم أزلْ... متسرّعاً نحو الهزاهز... إنّ السماحة والشجاعة... في الفتى خيْرُ الغرائز!!
فقام الإمام عليّ وقال: أنا له يارسول الله، فقال له النبي "صلى الله عليه وسلم"، اجلس إنه عمرو، فقال الإمام علي، رضي الله عنه وأرضاه، وإن كان عمروًا، فأذن له النبي "صلى الله عليه وسلم"، وأعطى له سيفه الشهير (ذا الفقار)، وألبسه درعه، وعممه بعمامته.. ثمّ قال "صلى الله عليه وسلم"، إلهي أخذت عبيدة منّي يوم بدر، وحمزة يوم أُحد، وهذا أخي، وابن عمّي، فلا تَذَرني فردًا، وأنت خير الوارثين.. ونزل عليَّ الميدان، ويمتلكه الثقة بالله، والنصر المبين، وقال كلامه الشهير ردًا على عمرو بن عبد ود:
لا تعجلنَّ فقد أتاك ... مجيبُ صوتكَ غير عاجزْ
ذُونية وَبصيرة ... والصدقُ مُنجي كلّ فائز
إنّي لأرجو أن أُقيمَ ... عليكَ نائحة الجنائزْ
مِنْ ضَرْبَة نَجلاء يَبقى ... ذكرُها عِندَ الهَزاهِزْ
ثمّ خاطب ابن عبد ودٍّ بقوله: (يا عمرو، إنّك كنت تقول لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلاّ قبلتها).
قال عمرو: أجل.
فقال عليَّ، (فإنّي أدعوك أن تشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وتسلم لربّ العالمين).
فقال : يا ابن أخي أخّر عنّي هذه.
فقال له: ( أما أنّها خير لك لو أخذتها).
ثمّ قال عليَّ: ( وأُخرى ترجع إلى بلادك، فإن يك محمّد صادقًا كنت أسعد الناس به، وإن يك كاذبًا كان الذي تريد).
قال: هذا ما لا تتحدّث به نساء قريش أبدًا. أي أنه سيتهموني بالجُبنِ !
ثمّ قال عليَّ، فالثالثة، أدعوكَ إلى البراز).
فقال عمرو: إنّ هذه الخصلة ما كنت أظنّ أن أحدًا من العرب يرومني عليها، ولم يا ابن أخي؟ إنّي لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، وقد كان أبوك لي نديمًا.
فاقتحم عن فرسه فعقره، وسلّ سيفه كأنّه شعلة نار، وأقبل عمرو مهاجمًا عليًا، فصدَّه برباطة جأش، وأرداه قتيلاً، فعلا التكبير والتهليل في صفوف المسلمين.
وجدنا من ذلك أن الإمام علي عليه السلام لم ينوي قتل عمرا فدعاه للإسلام أولا وللرجوع من حيث أتى ثانياً وآخرا للحرب بعد رفض عمرا للخيارين الأولَين.
لم يكن داعيا لتلك الحرب ولذلك الصراع ولو قبل عمرا بالإسلام او بالرجوع لما قُتِل ولانتهت المعركه.
وعادة ما تكون بدايات الحرب والصراع والنّزاع والخلاف معروفة ومحدودةً إلى حدٍّ ما ولكن حتماً فالنهايات لاتكُن معروفة أو محدودةً بعدد من الضّحايا لكلتا الطرفين فكلٍّ سينكأ جراحاته أياًّ كان الصراع أو النزاع عسكرياًّ أو إجتماعياًّ أو سياسيًّا أو دينيًّا.
٢/ المبدأ الثاني : ليكن اسلوبك شريفا في الصراع
من مبادئ السمو الأخلاقي في الصراعات نجده في الوسيلة والأسلوب . ( إيّاك والفجور في الخصومة فإن الغالب بالشرِّ مغلوبٌ)
فعلى سبيل المثال عندما يحصل نزاع أو خلاف ما بين الزوجين
فلا تفجُر في خصومتك إياَّها ، لاتتّهمها في شرفها وعرضها وتمتد إلى والديها وعائلتها ، من المفترض أن تكون القضية محدودة واحفظ لها مالها وماعليها من غير تشعبٍ في الأمور وفتح ملفات خصامٍ لاحصرَ لها ولاارتباط لها بذلك الخلاف .
بل حاول أن توضح لها الصورة بشكل ودِّي بأن تخبرها أن رأيك في الأمر الفلاني هكذا وهكذا وبأنه من الأفضل لو عملت هكذا وأن يثني عليها وعلى والديها أولا قبل أن يوجهها أو يلومها في أمرٍ ما ...
وكذلك أيضا بالنسبة للزوجه فعليها أن تثني على زوجها وتشكره قبل البدء في شرح الاختلاف او النقاش في الأمر المختلف عليه فالكلام الليّن يغلب الحق البيِّن.
أيها الزوجان المُتحابان حاولا أن لاتخترقا المحرمات عند اختلافكم وأن لاتتجاوزان الخطوط الحمراء بينكما حتى لاينشأ النزاع بينكما ويكبر ويتعدّى ليصل إلى الأبناء فيَصعُب تهدئة وتسوية الأمر بينكما .
وكما هو الحال حينما يكون النزاع بين الأقارب فلا يبدأ أحدهم في التشكيك بالآخر والتجريح في شخصه أو الإستعانة بالظالم كسجن الخصم أو ضربه، لأن ذلك غلبة بالشّر والغالب فيها مغلوبٌ . فالحقيقة مهما بداَ مُستطيعاً قويًّا قد ينكسرُ ويُغلب آخِراً .
فلا تهتُك عرض أحد ولاتحاول إسقاط أحد الوجهاء وتذكّر بأن ماعندك عند غيرك أيضا وإن كان هنا سفيه وهناك سفيه يحاولان إسقاط فلان وفلان من الوجهاء لكانت الساحة بيد السفهاء ولن يبقى للحكماء مكانا ..
لابد أن تكون الساحة بيد الحكماء والعلماء والعقلاء ، بيد الذين يستطيعون أن يُقدّروا الأمور حق قدرها ..
الإختلاف لا يجب أن يتطور إلى نزاع أبدا فحين اختلف معك ليس هناك مشكلة بيننا ألم يقل النبي للكفار ( لكم دينكم ولنا دين ، أنتم في طريق ونحن في طريق ، لكم قناعاتكم ولنا قناعاتنا ؟) إذن لاتُجبر احداً ما أن يتبعك جبراً أو أنك تُسقِطه بالتّعرض للأعراض والإتهامات والإستعانة بالظالم والى ماغير ذلك من طرق و وسائل الفجور في الخصومه.
ولابد أن تبقى الحدود كما هي أثناء الإختلاف أو النزاع سواء كان بين العلماء أو الحكماء او تيارين مختلفين أو زوجين و لايتعدى لأن يتشرد الأبناء أو للوصول إلى آخر المشوار في قضية ما وقد يكون حلّها أمرا سهلاً في متناول اليد .
لذلك على الإنسان إذا اضطر للدخول في صراع أن يُفكّر في الوسائل التي سيستخدمها حتى يصل إلى برِّ الأمان بأقل الخسائر .
٣/المبدأ الثالث : بين مصلحة الخاص والعام :
من مبادئ السمو الأخلاقي في الصراعات هو تقدير المصلحة العامة وتقديمها على المصلحة الخاصة . أي على الإنسان أن يقدم المصلحة العامة للمجتمع على مصلحته كفرد كما فعل ذلك أمير المؤمنين عند تعرّضه للظلم في انتزاع الخلافة منه جوراً وهو اولى وأجدر الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم .
وكانو يعلمون بأنه أولى بها منهم فقال عليه السلام في خطبته (( أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَلَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً....))
وقال ((حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ))(١)
خشي أمير المؤمنين على الإسلام وأهله فتنازل عن حقِّه في الخلافة وقدّم مصلحة الإسلام العامه على مصلحته الخاصه عليه السلام ، تنازل لوجه الإسلام والإنسجام العام رغم أن ذلك لم يكن اختياره الأول فلم يشأ أن يكون سببا في حربا داخلية أهلية بين المسلمين
حيث كانت حياته عليه السلام مُكرّسة من أجل بناء الإسلام لأنه القضية الأولى في حياته الزاخرة بالتضحيات وبالسمو الأخلاقي حتى مع معارضيه.
نرى ذلك واضحاً في كيفية تعامله عليه السلام مع مخالفيه وكيف أعطاهم حريتهم رغم شتمهم وسبابهم إياه عليه السلام على المنابر وغيرها ، حتى أنه كان يُجري لهم العطاء من بيت المال ولم يمنعهم عن مسجدٍ أو مكانٍ .
وبعدما تولى الخلفاء الخلافه الظاهريه بعد رسول الله (ص) غصباً منه عليه السلام لم يتوانى عن خدمة الإسلام والمسلمين فكان ينصح ويرشد الناس في جوٍ من الإنسجام مع الوضع بعيدا عن المبارزة لما في ذلك نصرة وتأييداً للإسلام وقد قال فيه الخليفة الثاني (( لولا عليٌ لهلك عُمر))
وفي ذلك إشارة إلى مدى إسهامه العظيم في قضايا الإسلام والمسلمين على الرغم من موقفه إزاء ذلك الكيان ؛ فلم يحاول استخدام الوسائل الغير مشروعة بالمؤامرات والدسائس..
حتى أنه في عهد الخليفة الثالث الذي أتى بأعمال مخالفة لنظرته عليه السلام وللكثير من المسلمين آنذاك ،فقد سعى عليه السلام لتعديل الميل ورتقِ الفتقِ وحاول تهدئة الثائرين على عثمان الذين أتوا من البصرة والكوفه .
أولئك الثائرون كانوا ناقمين على الخليفه فحاصروا قصر الخلافة لقتله ولكن الامام علي كان يرسل الحسنين بالماء إلى قصر الخلافة وللدفاع عنه ايضا ومع ذلك فقد كان عثمان يتهم امير المؤمنين بتحريض الثائرين عليه ولكن ذلك لم يكن ضمن مبادئه عليه السلام ولم يفتح بابا للفرقة والفتنه حتى وان كانت الظروف تقتضي ذلك ...
لم يفكر عليه السلام باستخدام الوسائل الغير مشروعة ولم يطلب الصراع أبدا فالغالب بالشّر مغلوب ولم يلجأ للفجور في خصمه يوماً بل كان ينصح الخليفه الثالث ويدافع عنه حتى بأولاده فلذات كبده حيث أنه طلب من الخليفة أن يكف أيدي بني أمية وسعى فيها بين الخليفة والمتمردين بالصلح، وانتهت بأن وافق عثمان على مطالب الثائرين فقفلوا راجعين إلى أمصارهم.
..وفي الطريق إلى مصر لحقهم غلام قيل إنه كان يتراءى لهم ثم يغيب عنهم، فلما أمسكوا به وجدوه يحمل رسالة إلى عبد الله بن أبي السرح وجدوا فيها: «إذا أتاك محمد بن أبي بكر وفلان وفلان فاقتلهم، وأبطل كتابهم، وأقر على عملك حتى يأتيك رأيي». فحاصرالثائرين قصر الخلافة مرة أخرى وعرضوا الرسالة على عثمان فأنكرها، فشكوا في حامل ختم الخليفة مروان بن الحكم، وطلبوا من عثمان خلع نفسه لضعفه وغفلته وخبث بطانته؛ أي أن مطالبهم زادت حدة. فرفض عثمان ذلك وقال لهم: «لا أنزع قميصًا ألبسنيه الله، ولكني أتوب وأنزع». قالوا: «لو كان هذا أول ذنب تبت منه قبلنا، ولكنا رأيناك تتوب ثم تعود، ولسنا منصرفين حتى نخلعك أو نقتلك أو تلحق أرواحنا بالله تعالى، وإن منعك أصحابك وأهلك قاتلناهم حتى نخلص إليك».
هذا هو أمير المؤمنين عليه السلام لايستبيح المحرمات وإن كان معارضاً للخليفة ولا يتحول لجهة تآمر ، تبقى الخلافه في محلها وتبقى الأخلاقيات والمناقبيات حاكمة.
وكذلك كما حصل في معركة الجمل وقد زهقت فيها آلاف الأرواح من الطرفين فقد تعامل عليه السلام بمناقبية لامتناهيه في الأخلاق رغم ماقاموا به جماعة الجمل من سلب وسرقة بيت المال في البصرة واعتدوا على حارسه عثمان بن حنيف وهو رجلٌ من الأتقياء وقد مثلوا به ونتفوا شعر رأسه ولحيته وسخروا منه وأمروه بالرجوع لأمير المؤمنين ع ، فلما وجده تبسّم وقال له ( خلفناك شيخاً وعدت إلينا شاباً أمردا))
وقتلوا من أصحاب الإمام عدداً كبيرا ودعوا إلى المبارزة والقتال من جهتهم ، أما من جهة أمير المؤمنين فكان لابد له أن يدافع عن تلك الولاية وعن المسلمين وعن الحكم الذي بين يديه مُحافظاً على أخلاقياته ومبادئه رغم صعوبة الظروف حوله .
نلمس ذلك حينما أمر بأن يرفع هودج عائشة على الجمل بعد سقوطه ، إلى خارج المعركة وأرسل إليها أخاها محمدا ابن أبي بكر وهو من أصحاب الإمام وقد قال فيه ( ولدي من صلب أبي بكرٍ) وقد تربى في بيت الإمام علي بعد زواجه من أمه أسماء بعد وفاة أبي بكر؛ فنال هذه النجابة .
أرسل أمير المؤمنين محمد ابن ابي بكرإلى عائشة وطرق عليها الهودج ، فقالت من الطارق ؟ فأجابها ( أقرب الناس منكِ رَحماً وأبغضهم إليكِ قلباً ، أنا محمد ابن الخزعمية ، فقال لهايقول لك أمير المؤمنين هل أصابكِ من أحدٍ ضررٌ أو سوء؟ فقالت لا لم يصبني ضرراً )) فكلّف أمير المؤمنين عدداً من الرجال وعدداً من النساء لخدمتها وحِراستها من البصرة إلى المدينة ..
وقد قال عليه السلام مخاطباً أهل البصرة بعد واقعة الجمل" وَأَمَّا فُلاَنَةُ، فَأَدْرَكَهَا رَأْيُ الْنِّسَاءِ، وَضِغْنٌ غَلاَ فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ الْقَيْنِ، وَلَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ، لَمْ تَفْعَلْ، وَلَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الاُْولَى، وَالْحِسَابُ عَلَى اللهِ"
أيّ أخلاقية تلك التي يمتلكها هذا القائد العظيم؟ كيف لأمرأة أن تسعر عليك حرباً ويُقتل في هذه الحرب آلاف الأشخاص وكأن شيئا لم يَكن ، وعفا الله عما سلف ؛
والإمام ينشغل بالبناء من جديد .
أيها الأحبه هذه طريقة السلام حقًّا حينما لايتملّك الإنسان حسُّ الإنتقام ولاتسوقه العواطف والأحقاد من المشاعر.
وهذا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في حرب صفِّين أمام جيش معاويه وقد منعوا عنهم الماء فذهب جماعة من جيش عليٍ يستسقون الماء بقربهم فقال معاوية أقتلوهم عطشا كما قتلوا الخليفة عثمان عطشاً رغم أن امير المؤمنين كان يرسل الماء لعثمان بواسطة الحسنين عليهما السلام.
فرجعوا للإمام يشكون عدم سقايتهم الماء فقال لهم الإمام " ارووا السيوف من الدماء تروون بالماء" فحملوا عليهم وقاتلوهم .
فالداعي باغي والباغي مصروع ؛ ذلك أن منعهم للماء كان يدعوا للنزال والقتال لذلك أزالهم الإمام وجيشه ومن ثم امتلك هو وأصحابه الماء .
وبعد أسر جماعة معاويه اقترح بعض أصحاب عليا عليه السلام أن يعطشوهم كما فعلوا بهم ، ولكن الإمام رفض ذلك وقال إن هذا ليس من أخلاقنا ، نعم أخلاقيات امير المؤمنين عليه السلام لاتسمح بمنع الماء عن كائنا من كان فالغالب بالشر مغلوب.
والفجور في الخصومه ينتهي إلى الهزيمة مهما كان لديه ذلك الطرف من القوه والنفوذ.
فلذلك لابد أن يضع الإنسان له مبدأ أن لايبتدأ في الصراع أبداً وإذا اضطر إلى خوض صراعٍ ما فعليه أن يخوضه بمناقبية وأخلاقية وليس بالفجور في الخصومة ولابالشر ولابالوسائل غير المشروعة وأن يضع له حدّا وسقفاً لايتعدّاه.
فمثلاًأيها الزّوج ان لم تضع لك حدّا مع الزوجة و وصلت بها إلى أقصى الإتهامات فقد هدمت بيتك بنفسك.
وإن وصلت كذلك لأقصى الإتهامات مع أخيك في الدّين ورمزك الإجتماعي أو ذلك الوجيه في الدّين او العالم الفاضل فقد هدمت مجمتعك وهدمت ذلك الكيان كَكُل، فالمجتمع يعتمد على مجموعة أفراد وأركان ثابته إن هدمت أنت هذا الركن وذك هدم ذلك الركن فقد انهار سقف ذلك المجتمع على رؤوس أفراده.
ومثالا لذلك نجد الزبير بن العوام ، أحد القادة الباغين والمعارضين لأمير المؤمنين ،حينما اختلف مع المقاتلين من جماعة الامام ولقى حتفه وأتوا بسيفه لأمير المؤمنين قال سيفٌ طالما جلا الكرب عن وجه رسول الله صلوات الله عليه ولكنه الحينُ ومصرع السوء .
أي كانت نهايته سيئة ولكن كان تاريخه مشرق مع رسول الله ص وهو صاحبَ السيف الوحيد الذي انتُضِي بعد قضية السّقيفة وسُلّ من غمده لنصرَة الإمام علي عليه السلام .
هنا الإمام ينصُف خصمه وغريمه الذي قاتله وجَيّش الجيوش لمحاربته حين يشهد بتاريخه المشرق ولكنه الحين ومصرع السوء.
لذلك ينبغي للإنسان المسلم أن يتعامل مع خصمة على هذا المنهاج الأخلاقي السامي الرفيع .
كما نرى ذلك جلياًّ في تعامله أيضا ورأفته بقاتله المتعمد قتله ...
وقد روي في رواية غير معتمدة أن الإمام علي قد عاتب ابن ملجم ألم أُكرمَك؟ فقال له : أفأنت منقذٌ من في النار؟
ولكن الأحرى هنا أن التحليل الإعتيادي لشخصية ابن ملجم ومن على شاكلته يرفض صحة هذه الروايه لماذا؟
لأن من يقدم على مثل هذا العمل الشنيع قد وصل إلى درجة من العداء وعمى البصيرة بأن مايقوم به سينال رضوان الله كما نراه في هذا الزمن من جرائم أحفاد ابن ملجم في تفجير المساجد والمشاهد وقتل الأبرياء ؛ يتقربون إلى الله في زعمهم بهذا العمل وكلما كان في شهر رمضان وازداد عدد الضحايا كان ذلك أعظم في الأجر والثواب .
وقد عبّر عن ذلك أحد شعراء الخوارج عمران بن حطان حين قال" ياضربة من تقيٍّ ماأراد بها إلا ليبلُغ من ذي العرْشِ الرّضوانا ،إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفى البرية ميزاناً
تَحنَّن أمير المؤمنين على قاتله فكان يوصي أبنائه بإطعامه وسقيه وعدم ترويعه وعند جلب اللبن للإمام أثناء مرضِه يتوَقّف قليلا ويسأل الحسن عليه السلام
"بُنيْ حسن أَوَسقَيتُم أَسيركم منه؟ بِحَقِّي عليك بُني حسن إلا ماأطعمتموه من طعامكم وسقيتموه من شرابكم ، أما ترى إلى عينيه قد طارتا في أم رأسه؟ "
ولقد مرّت بِه أم كلثوم عليه وهو في حال الأسرِ بمنزِل الإمام عليه السلام وقالت له " وَيحك أضربت أمير المؤمنين وأهلكت أمة محمد؟ فقال : إنما ضربت علي بن أبي طالب ، ماضربتَ أميرِ المؤمنين . فقالت : لابأس عليه إن شاء الله ، فقال ساخراً من كلامها : أَعليَّ تبكين؟
والله لقد ضربتَهُ ضربةً لو قُسّمت في أهل سوق عكاظ لكَفَتهم وقد سممْتُ سيفي قبل ذلك شهراً كاملاً فإن خذلني فأبعده الله ".
وبتلك الرحمة العظيمه عُرف مولانا حتى أنه بعد مقتله عليه السلام.
*- دخل ضرار بن ضمرة الكناني علي معاوية فقال له: صف لي علياً. فقال: أو تعفيني ،قال: لا أعفيك،قال: أما إذ لا بد فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته، وكان والله غزير العبرة طويل الفكرة، يقلب كف ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب، كان والله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومة يميل في محرابه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين،
فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرع إليه ،
ثم يقول للدنيا: إلىّ تغررت، إلي تشوفت، هيهات هيهات غري غيري قد بتتك ثلاثاً، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.
فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء.
فقال: كذا كان أبو الحسن رحمه الله كيف وجدك عليه يا ضرار. قال: وجد من ذبح واحدها في حجرها، لا ترقأ دمعتها ولا يسكن حزنها. ثم قام فخرج (٣)
إن مواقف أمير المؤمنين عليه السلام من قاتله ومعارضيه ومغتصبين الخلافة منه مواقفا بمنتهى الرحمة والإنسانية، وحريٌّ بنا كشيعته أن نتخلق بأخلاقه ومبادئه السامية العظيمه التي تسمو وترتقي بمجتمعاتنا نحو الكمال الأخلاقي .
السلام عليك ياأمير المؤمنين بأبي وأمي ياأبا الحسنين
(١،٢) نهج البلاغه
(٣) حلية الأولياء
|