( ولا تعضلوهنّ )
تحرير الفاضلة افراح البراهيم
قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كرهًا ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ إلا أن يأتين بفاحشة مبيّنة وعاشروهنّ بالمعروف فإن كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا )1
هذه الآية من سورة النساء التي تشتمل على كثيرٍ من الأحكام التي ترتبط بقضايا المرأة وتشرّع لها عددًا من الأحكام التي ترفع منزلتها وتجعلها كريمة كما أرادها الله تعالى.
وهذه السورة سميت بالنساء بالرغم من أنّ بعض أسماء السور جاءت طبقًا لما ذكر فيها من قضية تختص بالاسم وإن كانت الآيات التي تتحدّث عنها آيات قليلة كما في سورة البقرة التي تقارب آياتها الثلاثمئة آية لكنها تطرّقت لقضية البقرة في آيات قليلة ، وكذلك سورة النمل والنحل ، أما سورة النساء فسمّيت باسم النساء وهي تشتمل على كثيرٍ من الأحكام الخاصة بالنساء.
هذه الآية ( لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كرهًا و لا تعضلوهنّ ) تتحدّث عن قضية وراثة المرأة واعتبارها متاعًا أو مالًا يورث ، فكما أنّ الوارث يرث من أبيه المال والدار والفرس كان القدماء في الجاهلية يرثون النساء ، وهذا فيه امتهان واضح لكرامة المرأة وشخصيتها .
وقد نقل في سبب نزول هذه الآية أنّ رجلًا أنصارياً مات وجاء ابنه ووضع رداءه على زوجة أبيه ويعني هذا أنّ هذه الزوجة إرث له ، وكانوا كما يقول المفسرون إذا وضع أحدهم رداءه على زوجة أبيه يحلّ له أن يتزوّجها بدون مهر و لا صداق ، فإما أن ينزل بها أو ينزل عنها لشخص آخر ، وكذلك أخو المتوفى يحقّ له أن يتزوجها دون عقد أو مهر بل هي تعتبر من الميراث فإن شاء أن تكون زوجة له أو تكون زوجة لرجل آخر بل ويعطيه مهرها أيضًا ويكون ملكًا له.
جاءت هذه الآيات لتنفي هذا الحكم الجاهلي الذي انتشر في ذلك الزمان ، حيث نزلت عندما أتت امرأة هذا الرجل الأنصاري وشكت إلى رسول الله ذلك ، فنزلت هذه الآيات لتقّرر ما يلي:
1/ رفع هذا الامتهان والإذلال لكرامة المرأة واعتبارها متاعًا يتوارث وتؤخذ كزوجة بلا مهر بل هي امرأة ذات كرامة وشخصية محترمة .
وقد ضمن الإسلام للمرأة حقوقها وأعطاها الحرية في الزواج بآخر عندما يتوفى زوجها وتنقضي عدَتها ولها الحق في أن ترث زوجها ، قال تعالى ( ولهنّ الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهنّ الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها )2
2/ نفي ظاهرة ( العضل ) و النهي عن ممارستها في قوله ( ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ )
العضل هو تعبير جامع لكل الممارسات السيئة التي يقوم بها بعض الأزواج تجاه زوجاتهم.
البعض يتزوج امرأة ذات مال رغبة في ابتزازها بهذا المال بعد أن يعاملها بالأخلاق السيئة ويضطرها لطلب الطلاق ، حينئذ يبدأ بمساومتها وطلب المال مقابل الخلاص منه ، وهذا يحدث الآن كثيرًا في مجتمعاتنا متناسيًا هذ الرجل أنّ هذا يعتبر من الظلم وأنّ الله تعالى للظالمين بالمرصاد ، ومن يستغل ضعف المرأة ويظلمها فسوف يلقى جزاءه لأنّ ذلك من الظلم الذي يعاقب عليه ، ورد في الحديث عن أبي جعفر عليه السلام ( ثلاث خصال لا يموت صاحبهنّ أبدًا حتى يرى وبالهن : البغي وقطيعة الرحم واليمين الكاذبة ...)3
هل العضل مختص بالزوج ؟
العضل ليس مختص بالزوج فقط بل قد يكون العضل موجّه من الأولياء نحو المرأة كالأب والجد أو الأخ حينما يمنعها من الزواج طمعًا في مالها .
متى يحق للزوج أن يعضل زوجته ؟
يحقّ للزوج أن يعضل زوجته في حالة واحدة وهي في حال إتيانها بالفاحشة والعياذ بالله ، كما ذكرت الآية في قوله تعالى ( إلا أن يأتين بفاحشة مبيّنة ) حيث أنّ الزنا من الفاحشة إشارة لقوله تعالى ( لا تقربوا الزنا إنّه كان فاحشةً وساء سبيلًا )4
فإن ارتكبت المرأة الحرام والعياذ بالله وهي متزوجة فذلك أشد حرمة من ارتكابها الزنا وهي عزباء إذ أنّ ذلك يترتّب عليه مفاسد كثيرة من اختلاط النسب و إنجاب طفل غريب عن العائلة ، وهنا يحق للزوج أن يطلقها ويطلب ما آتاها من المال.
3/ الحكم الثالث الذي تتحدّث عنه الآيات ( وعاشروهنّ بالمعروف )
في مقابل العضل هنا يتعرّض القرآن الكريم لقانون المعاشرة بالمعروف ، حيث أنّ العلاقة بين الرجل والمرأة تكون بين نوعين:
النوع الأول
مرتبة عالية من المحبة والمودة والرحمة التي جعلها الله بين الزوجين ، قال تعالى ( خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة .. )5
وهذا هو المستوى العالي من المحبة حيث تتحوّل المرأة إلى جزء من حياة الرجل وكذلك الرجل جزء من حياة المرأة فلا يستغني أحدهما عن الآخر ، فتجد أنّ علاقتهما غاية في الانسجام والتلاؤم .
النوع الثاني
مرتبة متدنية من الكراهية والبغض ناتجة عن بعض الأخلاق السيئة المؤدية لذلك كالتعالي على الطرف الآخر والاستهانة بشخصه أمام الآخرين ، هذه الأمور لابدّ أن تعالج ويبادر الزوجان لإصلاحها وإلا أدّت إلى الكراهية والنفور .
في بعض الأحيان لا يوجد سبب للكراهية والنفور إنما هو عدم وجود انسجام قلبي بين الطرفين وقد يعود لسبب عدم ائتلاف الأرواح ، كما ذكر في الحديث الشريف ( الرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف )
فما لحل هنا لهذه الحالة التي لا يوجد لها سبب، ترشدنا الآيات في قوله ( فعاشروهنّ بالمعروف ) إذ يجب المعاملة والمعاشرة بالمعروف لعل هذه المعاشرة تؤدي شيئًا فشيئًا للأفضل فلا تكون الكراهية المطلقة دون سبب مدعاة للطلاق ، فيقول( فعسى أن تكرهوا شيئًا و يجعل الله فيه خيرًا كثيرًا )، فلعل تلك المرأة التي كرهت معاشرتها فيها الخير الكثير وقد يرزقك الله منها بذرية طيبة صالحة ، فلا يجب أن يتعجّل الانسان بالطلاق ، وكذلك الأمر بالنسبة للرجل.
هذه بعض القوانين التي تعرّضت لها سورة النساء ووجود القانون وحده لا يكفي بل يجب تطبيقه على أرض الواقع لأنّ ذلك من شأنه أن يحافظ على العلاقة الزوجية والأسرة.
ولنا في رسول الله وأئمتنا وقادتنا خير مثال لتطبيق هذه القوانين ، فهذه السيدة خديجة عليها السلام قد عاشت مع رسول الله صلى الله عليه وآله حياة مفعمة بالأنس والاطمئنان والمحبة والمودة والرحمة ، حيث لم يتزوج امرأة غيرها في حياتها ، وبعد أن توفيت تزوج بتسع نساء لم يقمن مقامها ، فكثيرًا ما كان يذكر ويثني عليها و يترحّم عليها حتى استثار هذا الأمر غيرة بعض نسائه.
وكذلك السيدة الزهراء عليها السلام مع أمير المؤمنين عليه السلام كانت مثالًا لحسن التبعّل ، وكذلك زوجات الإمام الحسين عليه السلام ، فهذه الرباب والدة عبدالله الرضيع ووالدة السيدة سكينة كانت مثال المرأة الصالحة التي حببّت دار الحسين إليه ، فكان فيما نقل عن الإمام الحسين عليه السلام قوله:
لعمرك إنني أحب دارًا تحلّ فيها سكينة و الرباب..
أحبّهما و أبذل جلّ مالي وليس بلائمي فيها عتاب 6
وهذا دليل على طيب معاشرة هذه المرأة الصالحة التي نالت بها حب زوجها.
وهذا شأن سائر الأئمة إظهار محبتهم زوجاتهم حتى يعلّمون الناس أنّ هذا من حسن المعاشرة وهو إظهار الحب والمودة للمرأة ، فقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله ( قول الرجل لزوجته أني أحبك لا يذهب من قلبها أبدًا .. )7
الرباب رافقت الحسن عليه السلام في مسيرته حيث بلغ بها الإخلاص والوفاء أنها لم تتزوج بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام ، بل عاشت حزينة بعده حتى ماتت كمدًا وحزنًا على الحسين عليه السلام ، وقد رافقت الحسين في مسيرته من مكة إلى كربلاء حيث قدّمت طفلها الرضيع ، ثم رافقت موكب السبي ولم ترجع مع عائلتها كما عادت بعض النساء مع عوائلهن في الكوفة ، بل رافقت مسيرة السبي إلى منتهاها حتى دخلت مجلس الطاغية يزيد ورأت راس الحسين عليه السلام في الطشت ولما رفع المنديل ورأت الرأس المخضب بالرمل والدماء صرخت
( و احسيناه فلا نسيت حسينا ) ، وأصبحت تنعاه حزينة باكية.
وعندما عادت هذه المرأة الوفية على المدينة لم تشأ أن تستظل بظل بيت أبدًا ، بل كانت تجلس في الشمس وكانت تقول : ( كيف أستظلّ بظلٍ وقد رأيت جسد حجة الله تصهره حرارة الشمس ..) 8
---------------------------------------------------
1 القرآن الكريم / سورة النساء آية 19
2 القرآن الكريم / سورة النساء آية 12
3 الخصال ص124
4 القرآن الكريم / سورة الإسراء آية 32
5 القرآن الكريم / سورة الروم آية 21
6 الديوان / موسوعة الشعر العربي
7 الكافي ج5 ص569
8 عين المجالس
|