صحيفة الأعمال وشهود الاثبات
افراح البراهيم
قال تعالى ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
حديثنا بإذن الله تعالى يتناول موضوع صحيفة الأعمال وشهود الإثبات في يوم الحساب ، حيث تحدثت الآيات المباركات كثيرًا عن هذا الموقف الذي سيعطى فيه كل إنسان كتابه ، كما تحدثت عن مواقف هؤلاء الناس على أثر استلام الكتاب فهي مواقف تتردّد ما بين الخوف والإشفاق والندم بين الخاطئين ، وبين الاستبشار والفرح من قبل الصالحين نسأل الله للسامعين ولنا أن نكون ممن يؤتى كتابه بيمينه فرحًا مسرورًا إنه على كل شيء قدير.
صحيفة الأعمال أو الكتاب ما لغاية منه ؟ إذا كان الله سبحانه لديه العلم المطلق عن كل إنسان ومع ذلك كل إنسان يعطى كتابه ، قال تعالى
(وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) (
وقال جل وعلا ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
فما لحاجة لذلك الكتاب إذا كان الله عالمًا ، والإنسان عادة يسجل حتى لا ينسى ويتذكر فلماذا يجعل الله لكل إنسان صحيفة أعمال ويكلف الملائكة بالتدوين ؟ فيها ثم عند الحشر والنشر يعطى هذا الإنسان هذا الكتاب؟ ، ذلك له غايتان:
1/ التوثيق
2/ الاحتجاج
إنّ الله سبحانه وتعالى عالم بكل شي لكن الإنسان لا يتذكر التفاصيل أو ربما يتذكر ولكنه يتجاهل ويتغافل فهذا الكتاب من باب التوثيق ليذكّره بما فعل إن كانت أعماله صالحة أو غير صالحة ، وأيضًا للاحتجاج وهذا ما عبّرت عنه الآيات في قوله تعالى يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
الإنسان يجادل ويحاجج في محكمة الدنيا ويدافع عن نفسه ليثبت أنّ الحق له أو ينفي عن نفسه ، ذلك أنّ غريزة الدفاع عن النفس موجودة وناشئة من حب النفس لذا يبعد الإنسان عن نفسه الضرر، وكذلك في الآخرة يجادل ويدافع عن نفسه وهنا تأتي صحيفة الأعمال لتثبت ما كان منه فلا مجال للإنكار.
في رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه كان جالسا فتبسّم فسأله بعضهم عن ذلك، قال : أعجب من جدال العبد لربه يوم القيامة ، قالوا كيف يا رسول الله ، قال يأتي العبد فيقول لربه يا رب إنك لا تظلم أحدا فيقول له لا أريد شهودا منك علي ولكن أريد شهودا علي من عندي فيأمر الله سبحانه أعضاءه بأن تشهد عليه ، يده تتكلم وتحدث عمّن ضربته ومن سرقته ، وكذلك لسانه الذي اعتدى به واغتاب به ، عينه تتكلم عن نظراته المحرمة ، فإلى هذه الدرجة الإنسان يحاجج ربه ويذكر ما عنده ويطلب شهادة من نفسه ، إذن صحيفة الأعمال وما يرتبط بها وشهود الإثبات مهمة في قضية الاحتجاج حيث تسقط حجة الإنسان ولا يسمع قوله.
ماهي صحيفة الأعمال؟
هل هي أوراق أو دفاتر أو سجلات ؟، فبعض المفسرين تصوّر أنّها سجلات لكن الآن وبحسب التطور فإن جهازًا صغير كالفلاش ميموري بمقدار نصف الاصبع يسجل سيرة حياة إنسان بأكملها ، فنحن لا ندرك ماهية تلك الصحيفة التي يواجه بها البشر ويحتج بها عليهم ، فإذا كان البشر قد تمكّن من صنع وسيلة كجهاز الذاكرة الصغير ويخزن فيها آلاف المعلومات فكيف برب البشر ، فماهي الآلة التي يستعرض من خلالها سيرة حياة هذا الانسان؟؟ حتى بلغ العجب من الكفار حين عرض الكتاب حين قالوا ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
إذن نحن لا يمكن أن نصل لحقيقة وماهية هذه الصحيفة ولا صفتها وشكلها إنما نعلم بالنتيجة فهي شيء يسجل فيه أعمال البشر ويعطى لمن هو صالح بيمينه ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية )
( هاؤم اقرؤوا كتابيه ) هاؤم بمعنى قولنا ( هاكم ) وهاؤم اسم فعل بمعنى خذ والميم للجميع أي خذوا ، ( كتابيه ) أي كتابي والهاء هاء السكت
( إنني ظننت أني ملاق حسابيه )
الظن في القرآن الكريم جاء بمعنى اليقين في عدة مواضع مثل قوله تعالى ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) )
لأنّ الظن في وقوع القيامة هو نقص في إيمان الإنسان ولكن هنا الظن بمعنى اليقين والاعتقاد الراسخ والجازم ؛ لذا صاحبه كان مستعدًا لهذا اليوم
( وأما من أوتي كتابه بشماله يقول يا ليتني لم أوت كتابه ) لما احتوى على فضائح ومقدمات للفضائح ( ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ) القاضية أي التي لا يكون بعدها حياة ، ولكن لا فائدة من الندم فأمه وأصله في دمار وفي مقر جهنم وهذه كلها نتائج صحف الأعمال ، ومواقف الناس مختلفة فترى المجرمين مشفقين نادمين ، بينما المؤمنون في راحة واستبشار وحالة حمد ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) )
في ذلك العالم سيكون هناك شهود متعدّدون للإثبات وأول أولئك الشهود وأعظمهم هو الله سبحانه وتعالى ، قال تعالى ( وكفى بالله شهيدًا ) كما نقرأ في دعاء كميل ( وكنت أنت الرقيب على من ورائهم والشاهد لما خفي عنهم ) ، وفي عالم الدنيا الرئيس يكلّف شخصًا بمراقبة شخص آخر ، والرئيس لا يعلم شيء حتى يخبره ذلك المراقب ، لكن تعالى جل وعلا مع تعيين الملكين المراقبين هو عالم بكل شيء فلا تخفى عليه الطلائع ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۖ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ۖ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (3 ) نقول في الدعاء ( يامن لا يخفى عليه تصرّف الخطرات ) فكل ما يخطر في بال الإنسان يعلمه الله ، فلو افترضنا ثمانية من مليارات البشر وما يخطر في بالهم من الخطرات تخطر في بالهم في ساعة واحدة هي كلها تحت سمع الله ورقابته عزوجل ليس فقط أعمالهم بل ما يخطر في بالهم كلها في علم الله ولا يخفى عليه شيء ، ولو خفي على الملكين فإنه لا يخفى على الله تعالى
2/ الملكان المقربان الرقيبان على الإنسان ، مع أنّ الله ليس بحاجة لتوكيل أحد برقابة الإنسان ، إنما هو جانب تربوي ليشعر الإنسان بقرب المراقبة ، وهذان الملكان لا نعلم حقيقتهما لكنهما موكلان بمراقبة الإنسان ، أحدهما موكل بالحسنات والآخر بالسيئات ، والآمر هو الموكل بالحسنات ، وهذا من رحمة الله وفضله فإذا عمل الإنسان عملا صالحًا أو كانت نيته أن يعمل عملا صالحًا مباشرة يسجل هذه الحسنة بعشر أمثالها ، فّإذا نوى الذهاب للمسجد كان له ثواب الحضور فكيف بذكر الله والاجتماع بالأخوان والصلاة في المسجد ، فكلها أعمال صالحة مضاعف فيها الأجر والثواب ، ولو صدر عنه ذنب وهو في الطريق للمسجد وقام ملك السيئات بتسجيل ذلك الذنب فإن ملك الحسنات يأمره بالانتظار وقيل في الروايات سبع ساعات لعله يستغفر ويتوب ، فإن لم يتب ولم يستغفر أّثبت الذنب مرة واحدة ، ولو استغفر بعدها غفرها له إلا ما كان من حقوق الناس ، وإن أتى بعدها بحسنة من الحسنات يمحى من سيئاته ، لذلك يستحب أن يصلي علة محمد وعلى آل محمد فإنها حسنة تمحو السيئات ( اللهم صل على محمد وآل محمد )
ونعلم أن ملك الحسنات يسجل ثواب النية الحسنة فورًا بينما ملك السيئات لا يسجل نية الذنب حتى يتحقّق في الخارج ، فلو نوى أحدهم الذهاب لمشاهدة فيلم من الأفلام الغير مناسبة والتي تحوي مشاهد غير أخلاقية فإنّ ملك السيئات لا يسجل هذه النية لعله يذهب ولعله لا يذهب ، أو يذاهب ثم يتراجع فلا يسجل عليه لا نية و لا عملا.
3/ الأعضاء والجوارح أيضًا تعتبر من الشهود والغالب أنها تشهد على الإنسان الجاحد والمنكر والمحاجج ، فلو افترضنا أنّ هذا الإنسان تفوّه بالشتم والفحش والغيبة والنميمة وينكر ذلك يوم القيامة وينكر ما جاء في صحيفة أعماله ، فإنّ هذا اللسان يشهد على صاحبه وقد ذكر القرآن الكريم ذلك في أكثر من آية يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24))
لا يخطر على بال الإنسان أنّ جلده الذي كان يهتم به في دار الدنيا ويحرص على جماله سيكون شاهدًا عليه ( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)
كل تلك الأعضاء ستشهد عليه إذا حاجج وأنكر ما فعل ، كذلك من الشهود بيئة الذنب أو بيئة الطاعة أي المكان والأثاث والزمان ، فلكل ذنب بيئة ، ولكل طاعة بيئة ، فهذا المسجد بيئة للطاعة ستشهد على صاحبها ، وكل بيئة تشهد على صاحبها إن عمل صالحًا أو سيئًا ، تللك البقعة التي عصى الله فيها هذا الإنسان ستشهد على صاحبه ، بل أكثر من هذا بناء على نظرية تجسم الأعمال أنّ العمل نفسه هو الذي يحضر وليس صورته ، وهذه الفكرة لها أبعاد متعددة ومختلفة ، ويستدل عليها بقوله تعالى
( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) )
فإذا جاء نفس العمل فهو واضح ولا مجال للإنكار فإذا كان شهود الإثبات بهذه الدقة والتفصيل والوضوح فحريّ بالإنسان أن يجعل على نفسه رقيبًا قبل رقابة غيره ، فالله سبحانه وتعالى أعطى الانسان إمكانية ضبط شهواته وأعطاه إرادة تجعله يسير على طريق الهدى فليس مجبورًا على طاعة الشيطان ، بل أعطاه عقلا مميزًا وإرادة من خلالها يستطيع اختيار الطريق الصحيح والسليم ولم يجبره على سلوك الطريق الخاطئ، بل على العكس أعطاه التوفيق والحكمة والرحمة الواسعة التي تقرّبه للطاعة، وأيضًا بعث إليه الأنبياء والأوصياء وجعل الهدى في طريقه واضحًا وكأنه يريد أن يأخذ بيده للجنة لكن الإنسان الغافل يسلك دروبًا أخرى.
والذي يتذكر مواقف القيامة وما يجري فيها من الحساب وتطاير الصحف والفضيحة أمام العباد يخشى ذلك اليوم ويطلب من الله الستر
( اِلـهي قَدْ سَتَرْتَ عَلَيَّ ذُنُوبًا في الدُّنْيا وَاَنَا اَحْوَجُ اِلى سَتْرِها عَلَيَّ مِنْكَ في الآخْرةِ، اِذْ لَمْ تُظْهِرْها لاَِحَد مِنْ عِبادِكَ الصّالِحينَ، فَلا تَفْضَحْني يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى رُؤُوسِ الأشْهادِ )
نحن نخشى من الفضيحة في دار الدنيا فكيف في الآخرة أمام جميع الخلائق كلهم بما فيهم الأنبياء والأوصياء والعلماء ( اللهم استرنا وكفر عنا سياتنا وأدخلنا الجنة مع الأبرار )
ذلك اليوم هو يوم انتصاف المظلومين من الظالمين ، وهو يوم ذلة الظالمين ، ويوم ينتقم الله لمن ظلم حق محمد وآل محمد ، فأي ظلامة أعظم مما جرى على آل رسول الله صلى الله عليه وآله ، فما كفى الظالمين قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله بل قاموا برفع رأسه على رؤوس الرماح، ألا لعنة الله على أول ظالم ظلم حق محمد وآل محمد وآخر تابع له على ذلك.