عالم البرزخ
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله العظيم في كتابه الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) آمنا بالله، صدق الله العلي العظيم. عطروا مجالسكم بذكر محمد وآل محمد. اللهم صل على محمد وآل محمد.
حديثنا بإذن الله تعالى - في ضمن سلسلة الحديث عن العالم الباقي - يتناول هذه الليلة شيئا عن عالم البرزخ؟ افتتحنا فيه بالآية المباركة.
عالم البرزخ: هو الفترة التي تعقب موت الإنسان إلى زمان البعث والنشور. هذه الفترة حيث يكون الإنسان فيها في قبره، ثم يضمحل بدنه بالتدريج، بينما تبقى روحه إلى أن يشاء الله فيبعث الناس ويحشرون من جديد لأجل الحساب ومواجهة المصير النهائي.
برزخ (في اللغة العربية) بمعنى الفاصل. والفاصل؛ قد يكون مساحة زمنية مثل الذي نحن فيه، أي هناك فاصلة زمنية طويلة بين ساعات الدفن إلى أيام الحشر والنشر، وقد يكون فاصلا وحاجزا غير مرئيا عن أن يختلط شيء بشيء. كما ورد في القرآن الكريم: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ) في قضية المائين؛ هذا ماء ملح أجاج، وهذا عذب فرات، هذا بلون وذاك بلون آخر، هذا بطعم وذاك بطعم آخر، هذا بتركيبة خاصة، وذاك بتركيبة أخرى فلا يبغي أحدهما على الآخر، ولا يتجاوز أي منهما حدود الموضوع الآخر. مع أنه لا يوجد فاصل ظاهري ومانع وحاجز مرئي في هذه الجهة، ولكن مع ذلك (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ).
فالفاصل والحاجز والمانع، سواء كان مرئيا أو كان غير مرئي، زمانيا كان أو مكانيا. هذا كله يطلق عليه البرزخ.
في هذه الآية المباركة - وهي من الآيات التي استدل بها على هذا العالم وعلى ما يحصل فيه مما يرد به قول بعضٍ من إنكار ذلك العالم، ولا دليل لهم على الظاهر أمام هذه الآيات، ثم الروايات التي وردت عن أهل البيت عليهم السلام
الآية المباركة: (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (*) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) تتحدث عن أنه بعد أن يأتي إليه الموت (أي يموت) يطلب العودة ليعمل صالحًا مما يعني أنه في عالم البرزخ باعتبار أن عالم البعث والنشور قد انتهى الأمر. فيطلب من الله سبحانه وتعالى أن يرده إلى هذه الحياة الدنيا لكي يتدارك ما كان قد تركه. لكن هذا الطلب طلب غير جاد، وطلب غير حقيقي، ولذلك لا يقبل لأنه خلال 70 سنة أو 80 سنة أو أكثر من السنوات - كما ذكرنا - جعل الله لهذا الإنسان نظام تنبيهٍ وتذكيرٍ في بدنه وفي محيطه الأسري، وفي دائرته الاجتماعية. كل واحد من هذه الأمور تذكره بالعمل الصالح، وأن يترك السيئات، فلو كان جادا حقيقة لفعل ذلك مع التنبيه الأول والثاني والثالث والرابع والعاشر، وعلى هذا المعدل، لكنه أغفل كل ذلك، والآن إذ مات وانتهى يريد أن يعود لكي يستدرك ما كان في سعة من أمره في الاستدراك، وما كان في فرصة واسعة له من العمل. هذا يتبين منه أنه ليس جادا وبالتالي دعوته هذه ليست دعوة مقبولة. فيقول: (.. رَبِّ ارْجِعُونِ (*) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ). أي أن النداء الإلهي يأتي إليك (كلا، غير مقبول هذا الطلب) نعلم بأنها (كلمة هو قائلها) وليس أول شخص يقولها.. (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي يبقون في هذا القبر إلى يوم القيامة/ يوم البعث/ يوم النشر/ يوم الحشر.
هذه من الآيات الواضحة والصريحة في إثبات عالم البرزخ. إذا ضممنا إليها عددا من الآيات الأخرى التي تدل بالملازمة على وجود هذا العالم، بل تثبت فيه شيئا من النعيم، أو شيئا من العذاب مثل الآية المباركة التي تتحدث عن الشهداء: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (*) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). هؤلاء أولا أحياء (ليسوا أموات) ، إضافة إلى ذلك يتنعمون (فرحين/مستبشرين). وهذه كلها تشير إلى نوع من أنواع النعيم يحظى به هؤلاء الصنف (الشهداء) وما ذلك إلا فيما بعد القبر. فلا معنى ل (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم) قبل القبر وهم على قيد الحياة، لأنهم فقط يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم، أيضا لا معنى لذلك عندما ينشرون للحساب، لأن الجميع قد حشروا، والجميع قد نشروا وبعثوا، فلا يوجد عندهم حالة انتظار لأحد. فيتعين أن يكون ذلك المكان هو في عالم البرزخ. هؤلاء تقدموا بالشهادة وينتظرون متى يأتون الذين من بعدهم (يستبشرون بنعمة الله عز وجل، وينتظرون أولئك الذين تخلفوا عنهم).
وفي مقابل هذا ما جاء في ذكر عذاب آل فرعون الطواغيت المتجبرين الذين منعوا الإيمان عن بني إسرائيل وعن غيرهم: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ)، و بعد ذلك(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ).
التفصيل في هذا الأمر بين حالتين: الحالة الأولى: أشد العذاب وهي يوم القيامة. لكن قبل هذا تكون الحالة الثانية: النار يعرضون عليها غدوا وعشيا أي في الصبح وجبة، والمغرب وجبة، كلفحة النار. كأحدهم يُقرٍب إلى موضع الجحيم والحميم غدوا وعشيا، بينما في يوم القيامة يُدخلون في النار في أشد العذاب.
يتبين من هذا إذن أن هذه الفترة التي يعرضون فيها على النار (غدوا وعشيا) إنما هي في فترة عالم البرزخ، وأما يوم القيامة فإنهم (يدخلون في النار)، و(في أشد العذاب) أيضا. هذه من الآيات التي هي بالملازمة تثبت أمر البرزخ، والعالم الذي فيه عذابًا في مثل آل فرعون، ونعيمًا في مثل الشهداء، بالإضافة إلى تصريح الآية المباركة: (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
في روايات أهل البيت (عليهم السلام):
الروايات في عالم البرزخ أيضا كثيرة، حتى لقد ادعى المحقق الطوسي الخاجة نصير الدين - رضوان الله تعالى عليه - وأحد كبار علمائنا في العقليات، والفلك، والفلسفة، والعقائد، ومن معاصري العلامة الحلي رضوان الله تعالى عليه وأبيه، والذي كان له دور كبير في إنقاذ تراث المسلمين، وحضارتهم العلمية أمام هجمة المغول، وقد تحدثنا عن سيرته في بعض السنوات الماضية، وقلنا إن المغول عندما جاءوا واحتلوا بغداد أقبلوا على الكتب، وبدأوا بإتلافها وإحراقها تارة، ورميها في النهر أخرى كأي مجموعة لا تقدر العلم والمعرفة. فهنا الخاجة نصير الدين الطوسي رضوان الله تعالى عليه، وقد علم خطورة اتلاف كل هذه الكتب و التفاسير، و المجاميع الحديثية، والعلوم العقلية، والنقلية، والتفسيرية والعقائدية حيث سيكون هناك انقطاع ما بين الزمان السابق، وما بين الزمان اللاحق. يعني تدمير حضارة علمية كاملة. فالناس الذين سيأتون مستقبلا سيأتون أميين منفصلين عن حضارتهم العلمية، وثقافتهم، وأحاديثهم إلى غير ذلك.
الطوسي رضوان الله عليه بطريقة علمية ذكية علم أن هؤلاء يؤمنون كثيرا بقضايا النجوم والفلك والتنجيم، ويعتقدون كمغول بتأثيرها على المصائر، فقد كان عالما فلكيا متقدما جدا، فجاء وتكلم مع أميرهم في ذلك الوقت، وأخبره أنه بإمكانه إفادته في هذا الأمر فائدة كبيرة. يمكنه إفادته متى يقاتل، و متى لا يقاتل، ومتى يقدم على الأمر، و متى يمتنع، وأي نجم جيد، و أيها غير جيد، ولكن هذا يقتضي أن يجمع الكتب التي تتولى هذا الأمر. فجمع كل الكتب التي في بغداد ودمشق وفي سائر الأماكن، وقام بإنشاء مرصد فلكي عظيم جدا جمع فيه الكتب من مختلف مناطق العالم الإسلامي، فحتى لو دمروا المغول ما دمروا، تبقى هذه الثروة العلمية موجودة. وهو بذلك عمل عملا مهما جدا تحدثنا عنه في كتاب أعلام الإمامية في هذا الجانب، بشكل مفصل.
على أي حال - الخاجة نصير الدين الطوسي ألف كتابا في العقائد، وكان دقيقا جدا، وفي نفس الوقت كان صعبًا بحيث قال بعض العلماء "لو لم يشرح العلامة الحلي كتاب الخاجة نصير الدين الطوسي في موضوع الاعتقاد لكان من الصعب على سائر العلماء أن يفهموه فضلا عن أن يشرحوه ويدرسوه" لكن العلامة الحلي على جلالته جاء وشرح هذا الكتاب فيسره لمن يريد من طلاب العلم. من جملة ما ذكر قضية "عالم البرزخ"، وقال: "والنقل بالتواتر يدل على وقوعه".. يعني أحاديث عالم البرزخ أحاديث متواترة، وقد ذكرنا في المباحث الأولى من هذه السلسلة أن موضوع العقائد وما يرتبط بالعالم الآخر يحتاج إلى رواية صحيحة، بل إلى روايات تفيد العلم والاطمئنان. فهذا العلامة المحقق الطوسي رحمه الله يقول: "إنّ الروايات الواردة في عالم البرزخ تصل إلى التواتر، والتواتر يفيد العلم" ومن ذلك ما نقلوه عن سيد الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله) من أنه (صلى الله عليه وآله) بعدما انتهت معركة بدر وقُتل زعماء قريش وكانت جنائزهم على الأرض، قام يخاطبهم، ويقول: يا عتبة، ويا شيبة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل! إني قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فقال أحد أصحاب رسول الله: يا رسول الله، كيف تخاطبهم وهم أموات لا يسمعون ولا يعقلون؟ قال ما أنتم بأسمع منهم، ولكنهم لا يستطيعون جوابا ولو استطاعوا لقالوا: (لقد وجدنا ما وعد ربنا حقا) يعني من العذاب والنقمة عليهم .
ومثل ذلك، ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام عندما مر على مقبرة في الكوفة، خلف المسجد وبعضهم مدفون فيه من زمان. فنادى: يا أصحاب القبور، أما الدور فقد سكنت، وأما الأزواج فقد نكحت، وأما الأموال، فقد قسمت. هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما إنهم لو تكلموا لقالوا: وجدنا خير الزاد التقوى.
الشرح: بمعنى يا أصحاب القبور، الأموال تقاسمها الورثة حتى أن الإخوة يكونون على انسجام وتوافق فإذا جاء وقت تقسيم الورث تقطعت الأرحام. ومن ترك زوجته ومات عنها، انقضت عدتها ٤ اشهر و١٠ أيام ثم تزوجت غيره. وأما المنازل فقد سكنت أي مثلا تم بيعه لأجل توزيع الورث. ولو تكلم أصحاب القبور لقالوا وجدنا خير الزاد التقوى.
فإذن في الروايات تصريحات كثيرة، وإشارات كثيرة إلى موضوع عالم البرزخ وما يحصل فيه - سنذكر فيما بعد رواية مفصلة عن الإمام زين العابدين عليه السلام، وأن الإنسان عن ماذا يسأل في ذلك العالم -
إذن البرزخ هي الفترة الفاصلة بين الموت وبين البعث والأدلة عليه من القرآن موجودة وصريحة، وكذلك الأدلة من الروايات عديدة وكثيرة إلى حد أن هذا العالم الجليل الطوسي يدّعي عليها "التواتر".
ماذا يُسأل؟ ومن يسأل في هذا البرزخ؟ و ماذا يحدث؟ هل أن الناس كلهم يُسألون؟ هل أن القبر لكل الناس إما روضة من رياض الجنان، أو حفرة من حفر النيران؟ ثم ماذا يسأل فيها هذا الإنسان حتى يتحضر ويستعد
الجواب: بالنسبة إلى من يسأل في داخله القبر، هناك قولان:
القول الأول: وهو المشهور في مدرسة الخلفاء، وبعض علماء الشيعة. وهو أن كل الناس الذين يفدون إلى القبور لا بد أن يُسألوا. فإما أن يكون نتيجة السؤال (روح وريحان) وينعم إلى البعث، أو نعود بالله يكون في ذاك الاتجاه. إذن يأتي ملك الموت عندنا في الروايات فيُجلس الميت نصف جلسة، وتكون الروح عند حقويه. لا هو ميت كالأموات ولا هو حي كالأحياء. وإنما بالمقدار الذي يستطيع أن يسمع الخطاب، وأن يجيب عليه. ويأتي عندئذ ملكان، المشهور في أسمائهما منكر ونكير -ونسأل الله أن يجعلهما لنا مبشرا وبشير - فيسألانه الأسئلة. هذا الاسئلة قصيرة ومحدودة أشبه بالامتحانات السريعة في المدارس، حتى يتبين هذا الإنسان من أي صنف. فيسألان هذا الميت أسئلة في العقائد، وأسئلة في العبادات والأعمال سنأتي على ذكر بعضها.
إذن القول الأول عند مدرسة الخلفاء وكذلك بعض علماء الشيعة بحسب ماورد من تعميم في بعض الروايات أن كل الناس يُسألون في القبر، وبعد ذلك يتعين وضعه ويتحدد صنفه.
القول الثاني: أنه ليس كل الناس يُسألون، وإنما يُسأل من محض الإيمان محضا، ومن محض الكفر محضا، وأما باقي الناس يؤجلون إلى الحساب الأصلي أي تؤجل ملفاتهم للنظر إليها فيما بعد. هذا القول هو المشهور عند علماء الإمامية مستفيدين ذلك مما ورد من روايات معتبرة ومتعددة في هذا الموضوع. فهناك روايات عن الإمام الباقر عليه السلام، وهناك روايات عن الإمام الصادق عليه السلام، وقسم منها معتبر السند.
منها ما ورد في كتاب الكافي لثقة الإسلام الكليني - رضوان الله تعالى عليه - بسند معتبر إلى محمد ابن مسلم الثقفي الطائفي - من الطائف - والذي كان من أعاظم أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، ومن الفقهاء الكبار في زمانه. وكان أيضا من خلص أصحاب الإمام الباقر عليه السلام، وقد أوصى الإمام الصادق عليه السلام بعض من سأله في حال كانت لديه مسائل فمن يسأل، فرد عليه: ما يمنعك من محمد ابن مسلم الثقفي، فإنه كان خصيصا بأبي، وعنده منه علم كثير.. من جملة ذلك ما رواه هو محمد ابن مسلم عن الإمام الصادق عليه السلام: لا يسأل في القبر إلا من محض الإيمان محضاً، أو محض الكفر محضاً، فقلت له: فسائر الناس؟ فقال: يلهى عنهم
هذا المعنى وردت فيه روايات متعددة أنه ليس كل الناس يُسألون في البرزخ وإنما: ١) ذلك الإنسان الذي بلغ درجة عالية من الإيمان ومحض الإيمان محضا في عقائدهم وطبقوه تطبيقا عمليا بحيث تميزوا عن غيرهم (شهداء، علماء كبار، أبرار، أتقياء … الخ)
وفي الطرف المقابل: ليس كل المقصرين يُسألون وإنما: ٢) من محض الكفر محضا.. من آذى خلق الله، وجحد آيات الله أو من تتبع أولياء الله بالقتل والتنكيل والأذى والعذاب.. إلخ.
لماذا الاقتصار على هذين الصنفين؟ يجيب على ذلك أصحاب القول الثاني أنه: لميزة في كل منهما، لو أنه أنا أيضا مثلي وأمثالي مؤمن، ولكن كما يقال (على الحافة) أي باقي 1/2 درجة وأسقط في الامتحان. لا أملك ذلك الإيمان المحض في الاعتقاد ولا في العمل. فلو أتو بمثل هذا المؤمن (الذي لا يملك الإيمان المحض) وسألوه هذه الأسئلة المختصرة: من ربك، و من نبيك؟ ما دينك؟ من إمامك؟ ما كتابك؟ وأجاب على الأسئلة بنجاح بالتالي يتنعم في الجنة البرزخية إلى يوم القيامة. وفي المقابل، جاءوا بأبي طالب (مؤمن قريش) الذي تحمل الكثير من الأذى والعذاب والمشاكل لحماية الدعوة والرسالة، والذي إلى يومنا هذا يشتم ويُسب ويذم ويكفر. أيضًا الشهداء - في الرواية عندنا - "كفى ببارقة السيوف فوق عنقه فتنة. زين؟ ما يحتاج هذي إلى فتنة"، فهو لايحتاج لفتنة ولا امتحان، السيف وحده اختبار لهم. فهؤلاء الذين عاشوا حياتهم متمسكين بالدين، بالإيمان مع شدة الظروف وقسوتها، فمحضوا الإيمان، فهل يعقل أن نجعل لهذا الصنف أي من محض الإيمان محضا جنة برزخية، ومثلي وأمثالي أيضا جنة برزخية! فما هي المزية لهم هنا وأين الكرامة التي أكرمهم الله بها؟ مثل الشهداء، والحوارين، وخلص أصحاب النبي (ص) وأمير المؤمنين (ع). مثل أصحاب الحسين عليهم السلام، وعليه السلام. ماهي ميزة هؤلاء؟ وكذلك إذا أتينا بآل فرعون الذين أفسدوا في البلاد، وجعلهم الله في النار، وأتينا بشخص آخر مقارف لبعض الذنوب وكذلك وضعه في النار. أين العقوبة الاستثنائية هنا لآل فرعون؟ لايوجد عقوبة استثنائية.
يقول أصحاب هذا الرأي: فلأجل أن يكون هناك مائز (كمائز الكرامة) في من محض الإيمان. و(مائز الإهانة) في من محض الكفر، يُسأل هؤلاء، ويُسأل هؤلاء، فيرزق هؤلاء جنة برزخية، و يدخل أولئك نارا برزخية. لاحظوا مثلا. قول الله عز وجل في آل فرعون: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) يوم القيامة، في حين أن (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ) يكون في عالم البرزخ.
لتبسيط المثال بالنسبة لمائز الكرامة: في المطار هناك صالة انتظار، البعض يُعطى بطاقة VIP لخدمات خاصة، والبعض يكون في صالة عامة. الانتظار هو نفسه، والوقت نفسه، لكن من يملك بطاقة VIP سيكون لديه ضيافة وتكريم خاص. هكذا هو عالم البرزخ .. هو عالم انتظار قد يطول إلى ألف، عشرة آلاف أو أكثر أو أقل من السنوات. فقط هذا الذي محض الإيمان يعطى بطاقة VIP ويقال له تفضل تنفس نعيم الجنة، وأطل على الجنة، هذا موضعك يوم القيامة. في الرواية (نم قرير العين، نبشرك بالجنة إلى حين تدخلها)، وأما ذاك - نعوذ بالله - يكون في انتظار (إهانة) .
هذا الرأي الثاني، وقد حملوا الروايات العامة على هذا المورد، حتى إذا قال مثلا في رواية (القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران). فالمقصود بالنسبة إلى هذين الصنفين فقط، وأما باقي الناس فتؤجل ملفاتهم إلى ذلك العالم الأصلي، والحقيقي، والحساب التفصيلي.
ماذا يسأل الإنسان في هذه الذين يسألون؟ ماذا يسألون هنا؟
نذكر لكم خطبة الإمام زين العابدين عليه السلام التي خطبها في المدينة. وقبل ذلك نعرج على بعض من سيرته الكريمة .. الإمام زين العابدين (عليه السلام) قام بأعمال كبيرة جدا من أهمها، وهو غير مشهور، أنه أرجع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) من النفي إلى وسط المسلمين. ذلك أنه منذ أن بدأ بإبعاد مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ومطاردة ذكر أمير المؤمنين في الحقبة الأموية، وتغييب أحاديثه في تلك الفترة، إلى حد أن من كان يريد أن يحدث عنه كان يقول حدثني أبو زينب حتى لا يقول علي بن أبي طالب، ويدخل في مشاكل. فأُبعد - بحسب خطتهم - هذا المذهب ورموزه من الحاضرة الإسلامية.
الإمام زين العابدين (عليه السلام) لما استقر في المدينة بعد شهادة أبيه الحسين سلام الله عليه، أعاد المذهب إلى وسط الحاضرة الإسلامية. فأولا: صار أكثر الفقهاء (فقهاء المدينة السبعة المشهورون) يتتلمذون على يد زين العابدين عليه السلام، ويأخذون عنه، بل حتى القضاة من بني أمية، القضاة الكبار مثل محمد بن مسلم، ابن شهاب الزهري في زمان الأمويين يأخذون علمهم ومعرفتهم من الإمام زين العابدين عليه السلام. وهكذا أرجع الإمام السجاد (عليه السلام) ذكر المذهب الصحيح إلى وسط المدينة. أيضا كان له في كل جمعة بمعنى يوم الجمعة أو بمعنى الأسبوع. في كل أسبوع كان له خطبة في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجتمع إليه فيها العلماء والفقهاء وعامة الناس، والإمام السجاد (عليه السلام) يخطب فيهم ويعلمهم. فعلى مدى (من سنة 61 هجرية إلى ما حدود السنة 80 وما بعدها) برنامج الإمام السجاد (عليه السلام) هو هذا في كل جمعة. فكم من العلم والمعرفة بُث في أهل المدينة. من جملة ذلك هذه الموعظة والخطبة التي خطبها، وأنت تجد فيها صراحة أيضا حتى يقول فيها أن الإنسان المسلم في قبره يسأل عن إمامه الذي يتولى، وهذه من عقائد الإمامة المعروفة.
روي عنه صلوات الله وسلامه عليه، في موعظته، كما ورد في كتاب الكافي: يا بن آدم ، إنّ أجلك أسرع شيء إليك ، قد أقبل نحوك حثيثا يطلبك ويوشك أن يدركك ، وكأن قد أوفيت أجلك وقبض الملك روحك وصرت إلى قبرك وحيدا ، فردّ إليك فيه روحك ، واقتحم عليك فيه ملكان ناكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك. ألا وإن أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده وعن نبيك الذي أرسل إليك وعن دينك الذي كنت تدين به وعن كتابك الذي كنت تتلوه وعن إمامك الذي كنت تتولاه، ثم عن عمرك فيما كنت أفنيته، ومالك من أين اكتسبته وفيما أنت أنفقته، فخذ حذرك وانظر لنفسك وأعد الجواب قبل الامتحان والمسائلة والاختبار فإن تك مؤمنا عارفا بدينك، متبعا للصادقين، مواليا لأولياء الله لقاك الله حجتك وأنطق لسانك بالصواب وأحسنت الجواب وبشرت بالرضوان والجنة من الله عز وجل واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك ودحضت حجتك وعييت عن الجواب وبشرت بالنار واستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم وتصلية جحيم.
(فخذ حذرك) أي أن الآن لديك فرصة. فخذ حذرك يا ابن آدم، وانظر لنفسك، وأعد الجواب قبل الامتحان والمساءلة، والاختبار.
وكذلك أسماء الأئمة (عليهم السلام) يسألونك عنها. وهذا الأمر - للأسف - عند قسم من الناس غير موضع اهتمام على خلاف السابق. رحم الله الآباء والأجداد كانوا يعلمون ابنائهم ألا يقوم من الصلاة إلا ويذكر الاثنا عشر (كما يسمونها) أما الآن تجد الابن يتجاوز الثامنة عشر والعشرين عاما ولا يحفظ أسماء الأئمة بالترتيب الصحيح. تجده يحفظ فريق (ريال مدريد) وغيرها، لكنه لا يحفظ أسماء الأئمة (عليهم السلام) بشكل الصحيح. لماذا؟ لأنه لا يوجد اهتمام في هذا الأمر بالرغم من وجود رواية صحيحة بهذا المعنى مروية عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه كان يقول معلما في سجدة الشكر تقول: (رضيت بالله ربا، وبمحمد نبيا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن كتابا، وبعلي إماما، وبالحسن إماما، وبالحسين إماما، وهكذا إلى آخر الأئمة …) فعلموا - أيها المؤمنون، أيتها المؤمنات - أولادكم وأولادكن هذه الأمور، لأنهم يُسألون عنها.
نحن بحمد الله أكرمنا الله عز وجل بموالاة رسول الله وأهل بيته، وعرفنا إياهم - ثبتنا الله وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
إذن هي من مواعظ زين العابدين عليه السلام، ومن خطبه صلوات الله وسلامه عليه. وكم له من خطب شهدتها المدينة المنورة، ولا سيما تلك الخطبة التي دخل بها إلى المدينة بعد شهادة أبيه الحسين عليه السلام. فإنه عندما رجع من كربلاء إلى المدينة، ووقف على بوابة المدينة، واجتمع الناس إليه، ذكر الله فحمده، وأثنى عليه، وذكر النبي فصلى عليه، ثم أخبرهم بأنه قد قتل الحسين ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله). فأي عين لا تبكي لقتله؟ وأي قلب لا يخشع لذلك؟ وقد بكته السماء وسكانها، والبحار وحيتانها، والأرض ومن عليها، هؤلاء كلهم يبكون أبا عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه. دخل بأبي وأمي مع عماته وأخواته إلى داخل المدينة، وهن باكيات، فلما رأت زينب صلوات الله وسلامه عليها قد لاحت لها معالم قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) نادت يا جداه يا رسول الله. أنا ناعية إليك أخي الحسين، فلقد قتلوه عطشانا، ضمآنا غريبا.
نسألك اللهم وندعوك باسمك العظيم الأعظم الأعز الأجل الأكرم. يا الله اغفر لنا ذنوبنا، كفر عنا سيئاتنا، آمنا في أوطاننا، لا تسلط علينا من لا يخافك، ولا يرحمنا. ولا تفرق بيننا وبين محمد وآله طرفة عين. احفظ اللهم إخواني السامعين فردا فردا، واقض حوائجهم وشافي اللهم مرضاهم، لا سيما المرضى المنظورين، ومن أوصانا بالدعاء. وتقبل اللهم عمل المؤسسين بأحسن القبول إلى أرواح موتاهم وموت السامعين نهدي ثواب الفاتحة، تسبقها الصلوات.
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين