الذي في قلبي على لساني.. مانتائجها؟ 8
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 15/6/1442 هـ
تعريف:

سلسلة الأمثال الخاطئة 8
 
(الذي في قلبي على لساني.. النتائج والآثار)  

تحرير سماحة الشيخ جعفر البناوي

من الأقوال الخاطئة التي يتمسك بها بعض الناس قولهم: (أنا إنسان صريح، لا أجامل ولا أنافق، والذي على قلبي على طرف لساني). 

والمتحدث بذلك عادة يكون في مقام الافتخار، حيث يرى أن صفة الصراحة والجرأة، والقول في الوجه، هي ميزة ناتجة عن الشجاعة. 

وليس الأمر كذلك؛ لأن الصراحة ليست من الصفات المحمودة؛ ولأنها من الطرق الخاطئة وغير السليمة في العلاقات الاجتماعية، وهذا ما نستفيده من القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله، وأئمة أهل البيت عليهم السلام. 

وقبل أن نستعرض وجوه الخلل والخطأ والاشتباه لمن يمارس هذه الفكرة، نشير إلى ملاحظتين:  

الأولى: أن القائل بهذه المقولة (أنا إنسان صريح...) ليس صادقًا على الإطلاق؛ لأن صراحته وشجاعته تظهر أمام الضعفاء، أو الذين لا يجارونه في الكلام، كالزوجة أو الزوج أو الأخ أو الجار، وأما أمام (الجبار الفلاني) أو (ربّ العمل) الذي بيده معاشه وراتبه، أو غير ذلك ممن يخشاه ويهابه؛ فإنه أضعف من أن يقول كلمة أمامهم، إذ لا قدرة ولا جرأة له على ذلك.  

فإذا كانت (الصراحة، وعدم المجاملة) من الصفات الحسنة والمقبولة، فلماذا تبرز هذه الصفة امام أشخا ص، وتختفي أمام أخرين؟ 

من لا يجامل لا يتوقف عند من هم دونه، فالشجاعة إما أن تكون أمام الجميع، وإلا أصبحت متأرجحة لجهة دون أخرى(1).  

ولذا فعلى من يتمسك بذلك المثل أن يصحح كلامه، ويغير من مثله، فيكون المثال هكذا: (أنا لا أجامل، والذي في قلبي على لساني إذا كان أضعف مني، وإن كان غير ذلك فأجامل، ولا أصارح)؛ لأن غالب من يدعي عدم المجاملة يتحفظ في صراحته، ويسكت امام من هو أقوى منه. 

الأخرى: لا بد من التفريق بين المواقف المبدئية التي ترتبط بالدين والعقيدة، وبين المعاملة مع الناس. 

في المواقف الدينية يتطلب من الإنسان أن يكون مبدئي، فالمنكر لا يعمله، ولا الكذب يجري على لسانه، ولا أي انحراف في كلام، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن.

ولا شك فهناك فرق بين الموقفين، فالمعاملة مع الناس يتطلب فيها المدارة والمجاملة، وقد أنزلت الأحاديث مداراة الناس بمنزلة (رأس العقل)، كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس"(2).  

وفي رواية أخر بأن المداراة (نصف العقل) كما روي عن الإمام الحسن عليه السلام: "مداراة الناس نصف العقل"(3).  

وفي ثالثة بأنه (نصف الإيمان) كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله : "مداراة الناس نصف الايمان"(4).  

ويقول نبينا محمد صلى الله عليه وآله: "أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض"(5)، وكأنه صلى الله عليه وآله قد قسم الدين إلى قسمين: 

- قسم لإقامة الفرائض من صلاة وصوم وحج وغيرها من العبادات. 

- وقسم أخر لمداراة الناس. 

إذن: فمداراة الناس تخالف مثل هذه الأمثال القائلة بالصراحة، وعدم المجاملة؛ لأن مداراة الناس تقتضي قوله تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾(6). 

وحتى المواقف المبدئية للإنسان تختلف، في طريقة التعبير عنها، فأحيانًا يخضع الموقف للتقية، وأحيانًا لحساب الضرر والمنفعة، وأحيانًا في نتائج الصراحة والمواجهة، فإن العقل يقتضي حساب الربح والخسارة. 

فالحديث بصراحة مع الأخرين ومواجهتهم بأخطائهم هل سوف تؤثر فيهم تأثيرًا إيجابيًا، أم أنهم سوف يقابلون الكلام بالعناد والصدّ؟ هل العلاقة معهم أصبحت إلى الأفضل أم انقطعت بالكامل؟ 

فالعاقل يحسب حساب الربح والخسارة من صراحته، وعدم مجاملته، ولا بد من التفكير مليًا هل كلامه سديدًا أم غير سديد؟ وهل جاء كلامه في وقته أم في غير وقته؟  

إن من لا يحسب حسابًا إلى جميع ذلك، وإلى نتائج صراحته وعدم مجاملته فإنه أحمق، وهذا ما عبرت عنه الروايات الشريفة، فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه"(7).  

 إن العاقل يتريث في القول لذا فإن لسانه وراء عقله، فيحسب حسابًا لكلامه من أنه مفيد أم غير مفيد؟ 

فالعقل والقلب صمام أمان حيث يتوقف العاقل في كلامه حتى يراجع عقله، أما حينما يكون اللسان أمام والقلب وراء تصبح النتائج سلبية. 

إن الله تعالى يقول: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾(8) ، فالمطلوب ليس الحسنى، وإنما التي هي أحسن، فالحسن درجات، هناك الحُسن، وهناك الحسنى، والدرجة العليا هي (الأحسن). 

والعلة في القول الأحسن؛ لأن ﴿الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾، فالجملة هنا تعليلية، فحين يفقد القول صفة (الأحسن)؛ فإن الشيطان سوف يصنع بينهم معركة. 

فيكون القائل بـ(الصراحة وعدم المجاملة) مطية للشيطان، فقد تنشب معركة، وتثير فتنة نتيجة لتلك الصراحة وعدم المجاملة.

كما أن العقائد والأحكام مقيدة بالتقية، لا سيما على مذهب أهل البيت عليهم السلام، والتقية تعني الحكمة، نعم هناك استثناءات في رفع التقية، كأن يتوقف إظهار الإسلام على هذا الأمر، أو أراد الإنسان أن يتعجل الشهادة ويلتحق في قافلة الشهداء، ورغم ذلك فهذا حكم غير عام للناس؛ لأن القاعدة العريضة التي يلتزم بها الناس هي :" التقية ديني ودين آبائي"(9). 

لذا يشكل بعض فقهاء الشيعة في صحة الصلاة المأمور بها تقية، وصلى على خلاف ما أمر به(10).  

فالمنهج العام حال الضرر وعدم الأمن على النفس ﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾(11)، وهذا ما يوافق الحكمة. 

وحتى العامة وإن كانوا لا يقولون بالتقية نظريًا، ولكنهم يطبقونها عمليًا، كما حدث في مسألة خلق القرآن (هل إن القرآن مخلوق أم قديم؟) أيام المأمون الخليفة العباسي، حيث اختفى المذهب الحنبلي عن تلك المسألة؛ لأن المأمون العباسي كان مخالفًا للحنابلة في ذلك، ولكنهم سكتوا عن الموضوع، بل أن بعضهم أقرّ بخلاف ما يعتقد به، حتى جاء (المتوكل) العباسي فأيد الحنابلة في قولهم، وعاقب مخالفيهم. 

أما في العلاقات الاجتماعية فلا تبرير للصراحة وعدم المجاملة، لأنها قد تقتضي إيذاء المؤمنين، وهذا عنوان محرم، وقد ينطبق عليه عنوان الغيبة ما لم تكن في الموارد المستثناة منها(12).   

في المقابل هناك حدود شرعية، وضوابط أخلاقية يجب على الإنسان أن يقف عندها؛ لأنه محاسب أمام الله سبحانه وتعالى على ذلك. 

فبعنوان الصراحة يسب ويشتم فيكون مبغوضًا عند الله جلّ شأنه لأن "الله يبغض الفاحش البذيء". 

فالتوجيه الديني الوارد من الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام يحث على المداراة وقول الأحسن من الكلام، كما في قوله صلى الله عليه وآله: "أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض"، وعنه صلى الله عليه وآله: "رأس العقل بعد الايمان بالله مداراة الناس في غير ترك حق"(13)، وهنا لا بد من التنويه إلى أن الأمر بالمعروف خاضع لقانون ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(14)، من عدم أذيّة من تأمره، أو تنهاه. 

فقد لا تأخذ الصراحة وعدم المجاملة نصيبهما في التأثير والتغيير، فليس هناك من يتعرض للسب أو الشتم فيكون إلى الأحسن، أو يستجيب لك، بل يصنع العداوة والبغضاء، وقطع العلاقات، وتجديد المشاكل. 

العادة أن الكلمة الطيبة والخلق الحسن واللسان الطيب والرفق في الأمور هي من تكون لها النصيب الأوفر في التأثير والتغيير.   

يقول النبي صلى الله عليه وآله: " الرفق يمن، والخرق شوم"(15)، وعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: " ما زوي الرفق عن أهل بيت الا زوي عنهم الخير "(16). 

وخلاصة القول: يتبين لنا خطأ من يقول: (أني صريح، وما أجامل، والذي على قلبي على لساني، وما أحب النفاق) وما شابه ذلك، بل أن ذلك من مساوئ الأخلاق. 

الهوامش

(1) ليصبح مصداقًا لقول الشاعر: أسد علي وفي الحروب نعامة ... ربداء تجفل من صفير الصافر. 

(2) وسائل الشيعة: ج12، ص202. 

(3) تحف العقول، ص370. 

(4) بحار الأنوار: ج72، ص440. 

(5) المصدر السابق. 

(6) سورة البقرة، الآية: 83. 

(7) وسائل الشيعة: ج15، ص281. 

(8) سورة الإسراء، الآية: 53. 

(9) وسائل الشيعة: ج16، ص210. 

(10) ورد بعض ذلك عند السيد الخوئي (عليه الرحمة) في موسوعته من كتاب (المستند في شرح العروة الوثقى) كتاب الصوم: ج21، ص279. 

(11) سورة آل عمران، الآية: 28. 

(12) كتظلّم المظلوم، ونصح المستشير، والاستفتاء، وغيرها من الموارد التي ذكرها الفقهاء. 

(13) تحف العقول، ص42. 

(14) سورة الإسراء، الآية: 53. 

(15) وسائل الشيعة: ج15، ص269. 

(16) المصدر السابق.

مرات العرض: 3399
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (18) حجم الملف: 28149.73 KB
تشغيل:

إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب .. هل يصح؟ 7
اسأل مجرب ولا تسأل طبيب .. هل هو صحيح9