فإن دعوتك أجبتني وإن سألتك أعطيتني 8
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 4/8/1441 هـ
تعريف:

فإن دعوتك أجبتني وإن سألتك أعطيتني


تحرير الفاضلة أم سيد رضا

جاء في دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة: ( ثم إذ خلقتني من خير الثرى لم ترضى لي يا إلهي نعمة دون أخرى ورزقتني من أنواع المعاش وصنوف الرياش بمنّك العظيم الأعظم علي وإحسانك القديم إلي حتى إذا أتممت علي جميع النعم وصرفت عني كل النقم لم يمنعك جهلي وجرأتي عليك أن دللتني على ما يقربني إليك ووفقتني لما يزلفني لديك، فإن دعوتك أجبتني وإن سالتك أعطيتني وإن أطعتك شكرتني وإن شكرتك زدتني، كل ذلك إكمال لأنعمك علي وإحسانك إلي، فسبحانك سبحانك من مبدئ معيد حميد مجيد تقدست أسماؤك وعظمت آلاؤك، فأي نعمك يا إلهي أحصي عدداً وذكراً أم أي عطاياك أقوم بها شكراً وهي يا رب أكثر من أن يحصيها العادّون او يبلغ بها علم الحافظون، ثم ما صرفت وذرأت عني اللهم من الضر والضراء أكثر مما ظهر لي من العافية والسراء ).

سبق الحديث أن الإمام عليه السلام يعدد العناوين الكبرى في نعم الله على الإنسان من أجل أن يوجهه إلى عظمة هذه النعم ويترتب على ذلك أن معرفة الإنسان بأنعم الله عليه يفترض أنها تسوق إلى شكر منعمه، وقد حدد الشكر المنعم بعبادة الله عز وجل كما جاء بها وبطريقتها الأنبياء والرسل، فبدأ عليه السلام بالحديث عن أن نعمة الباري على الإنسان سبقت وجود  الإنسان وإيجاده بمراحل زمنية سحيقة جداً، ثم تابع الله سبحانه وتعالى نعمته عليه في إيجاده وخلقه وهيأ له الأجواء المناسبة لكي يحيى ويعيش وأكمل وأتم خلقته في جميع أعضائه في أحسن تقويم وأجمل شكل ووفر له النعم من حوله وعطّف عليه قلوب الحواضن وكفّله الأمهات الرواحم، إلى غير ذلك مما سبق ذكره، ثم امتن الله عليه بأن دله على خالقه وهداه إلى بارئه لكي يحقق غاية وجوده وكمال عبوديته لربه بل ويحقق كمال هدف خلقته.

هذه الفقرة من الدعاء تتناول جوانب أخرى من النعم الإلهية والمنن الرحمانية، فالدعاء يقول: (ثم إذ خلقتني من خير الثرى لم ترضى لي يا إلهي نعمة دون أخرى)، فخير الثرى: أي أطيب الثرى وأكمل وأحسن الثرى، وكذلك ما ورد في بعض النسخ ( حر الثرى ) أي أعلاه وأحسنه وأصفاه، وحسب التعبير المعاصر هو أن المواد الأولية التي خلق منها الإنسان هي أفضل وأحسن المواد بما يتناسب مع خلقته، وهذا لا يتناقض مع ما ورد في نصوص الدين من أن الإنسان خلق من ماء مهين أو من صلصال من حمأ مسنون وما شابه ذلك، فإن مثل هذه الخطابات ناظرة إلى الجانب الأخلاقي بأن الإنسان عندما ينظر لنفسه مقابل ربه ومقابل النعم التي أنعم الله بها عليه فهو لا يسوى شيء أمام كل هذا، وأما إذا نظر إلى الشيء بإعتباره من خلق الله عز وجل بغض النظر عن تلك الجهة الاولى فإننا نلاحظ أنه خلق من أحسن وخير الثرى وقد كرم الله الإنسان، ولذلك نرى أيضاً أن تكاثر وتناسل المخلوقات هو أرقى شيء في سلسلة المخلوقات.

الإمام عليه السلام يقول لله بأنك يا إلهي خلقتني من خير الثرى وبتلك الخلقة العالية والسامية ومع ذلك لم تكن نهاية لنعمتك، بل نوّعت علي النعم، فلو أخذنا مثالاً على ذلك في طعام الإنسان نجد أن الإنسان يكفيه لنمو بدنه بعض الأطعمة كالقمح مثلاً واللحوم وبعض الفواكه ومن الشراب الماء، لكن الله سبحانه وتعالى جعل نعمه على عباده في قضية الطعام والشراب لا حدود لها، فيتعب الإنسان وهو يحسب انواع وأشكال النعم الإلهية في المطعم والمشرب، فالله عز وجل الجواد بطبعه والفياض بذاته أغدق على الإنسان نعمه وعطاءه فلم يرضى له نعمه دون أخرى وإنما أهال عليه النعم كلها وأعطاه العطايا بلا حدود.

( ورزقتني من أنواع المعاش وصنوف الرياش )، معنى الرياش هو الملبس أو الزينة او ما شابه ذلك فهو لا يستر بدن الإنسان عن الشمس والحر والبرد فقط بل هو أيضاً نحو من انحاء التزين، وإلا كان هذا الإنسان كسائر الحيوانات يكفيه شيء من الوبر على بدنه فقط ليقيه من الحر والبرد، فهل رأينا حيواناً يحتاج إلى أن يلبس الملابس في الصيف بشكل وفي الشتاء بشكل آخر؟، فالأمر يختلف بالنسبة للإنسان بأن أعطاه الله سبحانه وتعالى ورزقه من أنواع وصنوف المعاش ليتمتع فيها ومنها ما يحتاج إلى عمل باليد وإعداد وما شابه ذلك ومنها ما لا يحتاج، فالغرض هو أن الله كيف هذه النعم وكيف بدن الإنسان بأن يستفيد منها.

( بمنك العظيم الأعظم علي وإحسانك القديم إلي )، فهذا من منن الله سبحانه وتعالى وابتداء منه على الإنسان من غير طلب منه ومن غير استحقاق، وهذا ليس جزاء على شيء بل هو إحسان مقدم ومبادرة مقدمة من الله عز وجل، وهذه جهة من النعم إلا أن هناك نعمة مهمة جداً وهي نعمة تعامل الله عز وجل مع هذا الإنسان العبد حين قال الإمام الحسين عليه السلام: ( حتى إذا أتممت علي جميع النعم وصرفت عني كل النقم )، وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى صرف عن الإنسان النقمات والضراء والحوادث والأخطار سواء بتمكين الإنسان من أن يدافع عن نفسه بأن وضع فيه قدرات جسمية أو قدرات عقلية حتى يتصرف ويطوّع ذلك العدو.

( لم يمنعك جهلي وجرأتي عليك أن دللتني إلى ما يقربني إليك ووفقتني لما يزلفني لديك )، عندما يفكر الإنسان بأنه على سبيل المثال لو كان لديه تلميذ يتعب على تعليمه ويكرمه ويعطيه وثم بعد ذلك يصرخ هذا التلميذ في وجه معلمه ويشتمه، نلاحظ أن المقابل من هذا المعلم أنه لن يولي اهتماماً لهذا التلميذ هذا إن لم يطرده حتى، وكذلك لو ربى ابناً وتعب على تربيته وصرف عليه واجتهد على تقدمه ثم بعد ذلك يتمرد هذا الابن على مربيه، فهنا نجد أن ذلك المربي لن يولي اهتماماً لهذا الابن على الأقل كما كان في السابق، ولكن هلم الخطب في ربنا الرحيم الرؤوف اللطيف الحبيب بعد كل هذه النعم التي بدأنا بها من قبل وجودنا بملايين السنوات إلى أن أصبحنا الآن بالغين متنعمين في نعمه وصدّ عنا الأخطار وقربنّا إليه وأرسل لنا رسله وواتر علينا انبياءه، فكم ضحى هؤلاء الانبياء من اجل حياتنا وإنقاذنا وسلامتنا ومن أجل حياة في الدنيا سعيدة لنا وآخرة خالدة في الجنة لنا، فبعض هؤلاء الأنبياء نُشِروا بالمناشير وبعضهم قُتِلوا وبعضهم أُحرِقوا، فنبينا المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد آثر عليه قوله: ( أنه ما أوذي نبي كما اوذيت )، فكل هذه القافلة أرسلها الله سبحانه وتعالى لنا نحن البشر ومن أجلنا وليس لنا حق على الله في ذلك، لكنه تفضل ومنّ ومنع وأحسن وأعطى.

ها نحن الآن نبارز الله سبحانه وتعالى ولا نعترف له بألوهيته وربوبيته، لا نطيعه في ما أمر، نتقحم مواقع غضبه ونتحداه، فلو أن غيرنا من العباد هددنا بشيء سنلتزم مثل الساعة ولكن ربنا سبحانه وتعالى يهددنا بغضبه وجهنمه ولكنا لا نبالي وكأن شيء لم يحصل، فبعضنا لا يصلي والعياذ بالله لربه لكنه يذهب صاغراً إلى عمله ويُهزأ في ذلك المكان وهو مطأطأ برأسه، وكأنما جعل ربه أهون ناظر إليه ولا يخاف منه الذي بيده ملك السماوات والأرض ولكن يخاف من رئيسه في العمل وغيره، فهل هناك جرأة أعظم من هذه الجرأة؟! عندما يطلبنا ربنا من يومنا بكامله بما لا يزيد عن ساعة واحدة صلاة، فلو جمعنا كل الصلوات في اليوم نجد أنها لا تصل إلى ستين دقيقة أي أقل من ساعة في اليوم، وهددنا على ذلك إن لم نفعل بجهنم خالدين فيها وإن فعلنا أعطانا الجنة، وبعضنا بجهله وجرأته على ربه يخالف ذلك، وفي المقابل نجد أن الموقف الإلهي تجاه ذلك أنه سبحانه لا يبطش بنا ولا يعذبنا بعكس لو غاب الموظف يوماً أو بعض يوم في عمله فسيجد خطاب الإنذار وبعدها خطاب الفصل، ولكن الله سبحانه وتعالى يصبر علينا السنة والسنتين والعشر والعشرين ويقول لنا توبوا وارجعوا.

اخبرنا ربنا عن طريق التوبة وقال لنا أن نقوم في جوف الليل، نتوسل إليه ونقول له أستغفرك ربي واتوب إليك، فليذرف هذا الإنسان دمعة ندم حتى يرجع إلى الله، وليقضي ما عليه حتى يذهب إلى الجنة، وليقول يا رب اعني على الرجوع إليك حتى تصبح عندي قربة وأطوي تلك المسافات والبعد التي صنعتها أنا بنفسي.

( فإن دعوتك أجبتني وإن سالتك أعطيتني )، بالعادة لو أن أحدهم أساء لأحد آخر ثم أتى إليه وطلب منه حاجة فلن يستجيب له وإنما سيقوم بمعاتبته ولومه، ولكن ربنا سبحانه وتعالى بابه مفتوح لداعيه في أي وقت من الاوقات وفي أي حال ولن يعاقب هذا الإنسان بسوء عمله ولن يجازيه بسوء معصيته.

(وإن أطعتك شكرتني وإن شكرتك زدتني، كل ذلك إكمال لأنعمك علي وإحسانك إلي )، بالرغم من أن طاعة الله هي واجب على العباد ولو لأجل هذا النعم  فإن الله تعالى يشكر عباده الطائعين بل ويزيدهم من نعمه، فالله سبحانه وتعالى قديم الإحسان وليس احسانه حادثاً، فقبل وجود الإنسان كان محسناً له، أثناء تكونه كان محسنا له، بعد ولادته كان محسناً له، حين نموه كان محسناً له، وحين عصيانه أيضاً كان محسناً له، وكل هذا زيادة في النعم السابقة التي لا يستحقها هذا الإنسان ولكن الله أهل الكرامة وأهل الجود والعطاء.

( فسبحانك سبحانك من مبدئ معيد حميد مجيد تقدست أسماؤك وعظمت آلاؤك )، لا يخاطَب أحد مهما علت مرتبته بسبحانك إلا ربنا سبحانه وتعالى، فسبحانك أي انزهك يا ربي عن أي نقص وعجز وأي جهة سلبية، فأنت يا إلهي منزّه عن البخل وعن الظلم وعن النقص، فأنت الكمال وفوق الكمال ويحار الكلام في صفاتك يا رب العباد، فسبحانك من مبدئ معيد.

نلاحظ أن بعض الناس يبتدؤنا بالنعمة ثم يتركنا بحال سبيلنا لأننا أصبحنا قادرين على كسب رزقنا، ولكن الله سبحانه وتعالى يبتدؤنا بالنعمة ويعيدها علينا ولا يتركنا أبداً إلى آخر لحظة في حياتنا.

( فأي نعمك يا إلهي أحصي عدداً وذكراً و أي عطاياك أقوم بها شكراً وهي يا رب أكثر من أن يحصيها العادّون او يبلغ بها علم الحافظون)، فماذا يستطيع الإنسان فعله حتى يكافئ ربه على كل هذه النعم التي ينطق بها كل بدنه من أوله لآخره ومن أعضاءه الداخلية إلى أعضاءه الخارجية، وهي أكثر من أن يستطيع عدّها العادّون كما قال تعالى: (( وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها )).

(ثم ما صرفت وذرأت عني اللهم من الضر والضراء أكثر مما ظهر لي من العافية والسراء)، فالعافية والسراء لا يستطيع الإنسان أن يعددها وأن يحيط بها ويذكرها فكيف يستطيع ان يعدد ما خفي عنه من دفع الله الأعداء عنه ودفع المؤامرات والأخطار التي تهدده وهو لا يعرفها ولكنه يعرف انها شيء عظيم جداً قد سترها الله عليه وهذه نعمة أيضاً لأن شعور الانسان بالمرض وبمؤامرات الأعداء عليه تجعل حياته نكدة، لكن الله سبحانه دفعها عنه ولم يحيطه بها علماً، نسأل الله تعلى أن يجعلنا من خير عباده ومن صالح عبّاده وأن يهب لنا حبه وحب عبادته وأن يكرمنا بشكره وشكر نعمته إنه على كل شيء قدير.






مرات العرض: 3407
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2572) حجم الملف: 49888.22 KB
تشغيل:

النعمة الثالثة الكبرى ألهمتني معرفتك 7
لماذا لا يمكن إحصاء نعم الله 9