رؤية حول صلح الامام الحسن ( المولد )
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 15/9/1438 هـ
تعريف:

رؤية في صلح الإمام الحسن بن علي

 

تفريغ نصي الفاضلة أمجاد عبد العال

نبارك لسيد الخلائق النبي المصطفى ولوصيه المرتضى ولابنته الزهراء ولسيد الشهداء والأئمة النجباء، ذكرى ميلاد سبط رسول الله، الحسن بن علي أمير المؤمنين، صلوات الله وسلامه عليه، ونسأل الله سبحانه وتعالى، الذي أكرمنا بمعرفته، أن يكرمنا بشفاعته ومرافقته في الجنان، إنه على كل شيء قدير.

يتناول حديثي شيئا من الرؤية حول مصالحة الإمام الحسن المجتبى سلام الله عليه، وقد كنا تحدثنا في سنة ماضية، عن سيرة حياته إجمالا، ومررنا مرورا سريعا على موضوع الصلح، ونحتاج أن نتوقف وقفة قصيرة، أمام هذه الحادثة التي بدت فيها حكمة الإمام عليه السلام، وقدرته على إدارة المعركة السياسية.

كمقدمة لهذه الرؤية في الصلح، نشير إلى أن البشر تطور من حالة إلى حالة، كانت طريقة البشر في القديم، أنهم يخذون حقهم، بل وغير حقهم بقوتهم. من كان يمتلك القوة، كان يأخذ حقه، وأحيانا كثيرة غير حقه، ومن كان ضعيفا في هذا الجانب، كان مسلوب الحق عادة.

تطور هذا فيما بعد، من حالة فردية، إلى حالة دول، بحيث أصبحت الدولة الأقوى تأخذ ما تريد من جيرانها، كأراض، وأموال، وغنائم، والقبيلة الأقوى أيضا كذلك، بعامل القوة، لذلك نشبت في البشر حروب كثيرة، كان عاملها الأساس، أنها تريد السيطرة على سائر المناطق، أراضي، وأموال، واستلابا وما شابه ذلك.

وقد ذكرنا في ليال مضت، كمثال على ذلك: الحملة المغولية، على البلاد الإسلامية، باتجاه الغرب، وعلى غير الإسلامية، باتجاه الجنوب.

مع تقدم الإنسان في العلم والمعرفة، ومع سيادة شيء من التحضر، توصل البشر إلى أن أخذ الإنسان لمصالحه، وحقوقه، بالقوة، يؤدي إلى خسائر عظيمة لدى الإنسانية، نظرا لتطور الأسلحة، التي أصبحت تبيد مئات وألوفا وعشرات الألوف. لم يعد هذا الطريق، في نظر البشر منسجما ومتلائما مع الحالة الإنسانية، التي تطور إليها الإنسان، وأصبح هناك بديل آخر، وهو أن تسعى الجماعات والدول والقبائل للحصول على حقوقها من خلال التفاوض والتفاهم والاتفاق. فإن هذا كلفته قليلة وفي نفس الوقت، من كان أكثر ذكاء، وأكثر حكمة، وأكثر صبرا وقدرة على إبداء حجته، هو الذي ينتصر في النهاية، فما عادت القوة إلا لخدمة المفاوضات، ما عادت القدرات العسكرية نافعة لو لم يكن وراءها، قدرة سياسية ودبلوماسية، وقانونية، قادرة على أن تستفيد من الظرف، ولذلك، أصبح في عالم اليوم مثلا وزير الخارجية، أكثر أهمية من وزير الدفاع، مع أن هذا وزير الخارجية، في كل بلد، لا يملك حتى مسدسا، ولكن وزير الدفاع، في كل بلد، لا سيما الدول العظمى، يمتلك مئات الطائرات وآلاف الدبابات وما شابه ذلك. ولكن دور هذا الوزير المجرد عن السلاح أقدر على في نفع بلده من ذلك الوزير الآخر.

وهذا راجع إلى أن البشر التفت إلى أن القوة الحقيقية هي قوة أن يقنع هذا الطرف ذاك الطرف، وأن يدير أمر المفاوضات معه بشكل سليم، لا تحل القضايا على طريقة البشر الأقدمين، من كان يملك سلاحا أقوى يستخدمه فورا، فيبيد هذا الجنس، أو هذه الفصيلة أو هذا المجتمع.

لو أردنا أن نبني على هذه المقدمة، سوف نرى أن وثيقة الصلح التي عقدها الإمام الحسن المجتبى سلام الله عليه، مع معاوية بن أبي سفيان، من أكثر الوثائق ذكاء وحكمة، بدت فيها قدرة الإمام الحسن (ع) في أن يقرر ولو على سبيل النظرية والاتفاق القانوني، أن يستحصل كل ما كان يريد، وأن يمنع خصمه عن تحقيق ما كان يريد. لعلك تقول: لكن هذا لم يتم على أرض الواقع! لأن معاوية لم يف وولم يلتزم بما كان قد وقع عليه.

والجواب على ذلك: هي مرحلتان. المرحلة الأولى: أن تصوغ وثيقة قانونية وافية بما أنت تريده من مطالب. المرحلة الثانية: أن يلتزم بها الخصم وأن يطبقها. الأمر الأول بيدك، لكن الأمر الثاني، ليس بيدك. لا أحد يستطيع في أي مجتمع، أن يقول: أنا أستطيع أن أضمن أن الطرف الآخر، سيلتزم بهذا الاتفاق إلى آخر عمره. بعدما وقع، تحصل ظروف، يغير رأيه. يتغير الحكم، تتغير الاتفاقية، لأي سبب من الأسباب. وهذا لا يضير الإنسان أن يعقد اتفاقا. أنت تكون مع تاجر فتصوغ اتفاقية تجارية معه، لا تستطيع أن تضمن أنه سوف يطبقها حرفيا إلى عشر سنوات، لكن الذي تستطيعه هو أنك تصوغ اتفاقية مربحة لك. الذي حصل بالنسبة إلى إمامنا الحسن (ع) هو هذا. فلنقرأ شيئا من هذه البنود بعد الصلاة على محمد وآل محمد. اللهم صل على محمد وآل محمد. اللهم صل على محمد وآل محمد.

في الخبر التاريخي دعا الحسن بن علي بكاتبه فكتب: هذا ما اصطلح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب، مع معاوية بن أبي سفيان. أول خطوة: ذكاء الإمام الحسن (ع) حكمته، دعته إلى أن هو يصوغ الاتفاقية، لا أن هو الذي يوقع عليها. من يبدأ بصياغة المسودة كما يقولون، يوجه الاتجاه بالنحو الذي يريد. لذلك يحرص الحكماء والعاقلون في مثل هذه الموارد، أن تكون الصياغة التي اختاروها، هي الصياغة التي سوف يتم التوقيع عليها، حتى لو تم التغيير فيها. من نقاط القوة في الاتفاقيات، أن هذا الطرف هو الذي يصوغ الاتفاقية، ويقدمها للتوقيع، حتى لو تم التغيير فيها. نفس صياغة الاتفاقية من طرف هو نقطة قوة بالنسبة له. وهذا ما صنعه الإمام. دعا بكاتبه، فكتب، والإمام الحسن يملي، هذا ما اصطلح عليه الإمام الحسن بن علي ومعاوية.

نقطة شكلية أيضا، تقديم وتأخير الأسماء أيضا كذلك، عادة الذي يرى نفسه، أولى بالحق، أو أعلى منزلة، يقدم اسمه، أما إذا رأى الطرف الثاني هو الأعلى منزلة، يقدم اسمه، ولذلك حتى في الرسائل مثلا، الخليفة إذا كان يريد أن يوجه رسالة إلى الوالي يقول من الخليفة فلان إلى الوالي فلان، فلو عكس الأمر، هذا شيء غير صحيح. الإمام الحسن (ع) قدم اسمه الشريف على سام معاوية. وكأنه يقول: أنا أفضل منك، ,أعلى منك منزلة، النقطة الأولى. على أن يسلم إليه ولاية أمر المؤمنين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة نبيه محمد (ص).

هذه القضية كانت تحصيل حاصل، لذلك لو سلمها الإمام (ع) لم يكن هناك إشكال، كأنما يريد أن يربح نقطة هي خاسرة بالنسبة له. لماذا؟ لأن طبيعة جيش الإمام والأوضاع المحيطة به، خيانة بعض قواده، تخاذل عموم الجيش، "كنتم تقاتلون مع أبي وآخرتكم أمام دنياكم، وأصبحتم تقاتلون معي ودنياكم أمام آخرتكم"، تقدمون الدنيا على الآخرة، فالحالة المعنوية مالتكم غير جيدة، قادة انهزموا وتسللوا. هذا الجيش غير قادر على المواجهة، المواجهة العسكرية تعني الانتحار.

فإذن، أن يسلم إليه إمرة المسلمين، هي مسلمة بشكل طبيعي، ولكن قدمها الإمام باعتبار أنها نقطة. طيب، سوف يستفيد منها، وشرطها بأن على يعمل بكتاب الله وسنة رسوله. هنا بعض النصوص تنقل وسيرة الخلفاء الصالحين. وقد شكك بعض الباحثين في هذا، بالقول: بأنه كما أن أمير المؤمنين رفض شرط بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين، العرض اللي عرضه عبد الرحمن بن عوف حتى يسلم إليه الخلافة، نظرا لأنه لم تكن هناك سيرة واحدة، وإنما سير متعارضة ومتضاربة. ولذلك قال: بل كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي. ماذا أصنع إذا كانت سيرة الخليفة الأول تخالفها سيرة الخليفة الثاني، بأي سيرة أعمل.

لذلك شكك بعض الباحثين، في أن تكون هذه الجملة موجودة في أصل الاتفاقية، لأن ما رفضه علي (ع) وهو مشهور، لم يكن ليقبل به الإمام الحسن ويبادر إلى جعله قيدا من القيود، وسيرة الخلفاء الصالحين لم تكن سيرة واحدة، لنفترض سيرة الخليفة الأول، تخالفها سيرة الخليفة الثاني، وتخالفها سيرة الخليفة الثالث، وتخالفها سيرة علي (ع). فماذا يصنع في مسألة، في العطاء، هل يفضل كما كان الخليفة الثاني، أو يسوي كما كان علي (ع)، متناقضة ومتضاربة، فأولا قيدها بأن تكون على كتاب الله وسنة نبيه، هذا واحد، البند الثاني: وليس لمعاوية بن أبي سفيان، التفتوا إلى هذه النقطة، أن يعهد لأحد من بعده عهدا بل يكون الأمر من بعد للحسن، فإن قضى، يكون للحسين، فإن قضى، يكون شورى بين المسلمين. وبهذا أغلق الباب الإمام الحسن على الأسرة الأموية.

معاوية في ذلك الوقت، عمره بحدود 70 سنة، عند هذه الاتفاقية، الإمام الحسن (ع) عمره بحدود 35، الإمام الحسين (ع) عمره بحدود 34، بحسب الظروف العادية، معاوية سوف ينتهي عمره، وبالفعل، هو في حدود سن 78 توفي معاوية، فقدامه سبع سنوات، ثمان سنوات، وبحسب الظروف العادية سوف تؤول المسألة إلى الإمام الحسن. البند الثالث: وعلى أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله، في شامهم، وعراقهم، وتهامتهم، وحجازهم. الإمام الحسن هنا قرر في ضمن هذه الوثيقة، حالة الأمان العام، لكل أبناء الأمة. وهذه هي طريقة أهل البيت (ع)، الأمة أمة جدهم. ليسوا فئة محصورة حتى يعتنوا بقسم دون قسم. الأمان الأول، هو أمان لكل المسلمين، حتى الذين في الشام، في شامهم وحجازهم وتهامتهم، وفي كل مكان، أنهم آمنون. وعلى معاوية أن يطبق ذلك، ثم جاء وأكد بندا آخر في خصوص شيعة أهل البيت (ع)، نظرا لخصوصية المرحلة، لا يجي باشر ويقول مثلا أنت فلان حرضت علينا في صفين، فبحكم قانون أمن الدولة، لازم نجي ونعاقبك، حرضت علينا، عندك موقف غير طبيعي، وذاك كان مثلا، الأمن لمن لم يرتكب منا شيء، ذلك جاء في بند آخر، وقال: وعلى أن أصحاب علي وشيعته، آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم وعلى معاوية بذلك عهد الله وميثاقه. خصوص شيعة أهل البيت، شيعة علي، آمنون على الأموال والأنفس والأعراض والأولاد لا يصيبهم خطر ولا يكون بعنوان من العناوين يستجلب هذا ويستحضر ذاك، أو يسجن هذا وذاك.

ثم ضيق أيضا الدائرة في خصوص الإمام الحسن، وبقية أهل البيت، فقال: وعلى أنه، أي معاوية، لا يبغي للحسن بن علي، ولا لأحد من أهل بيت النبي غائلة سرا ولا علانية، ولا يخيف أحدا منهم في الآفاق، في أفق من الآفاق، شهد على ذلك فلان وفلان وفلان، ثم وقع هؤلاء.

فالإمام (ع)، في البداية، قدم شيئا هو على أي حال مقدم، وهو الحكم لمعاوية، في كل الأحوال الحكم سيكون لمعاوية. إن واجه الإمام الحسن وقاتل، سيخسر من جيشه عددا كبيرا، وربما خيرة الأصحاب، الخونة والضعفاء راح ينهزمون، والذين سيقتلون هم خلص الأصحاب، وربما وقع الإمام الحسن (ع) في أذى من أجل ذلك. وهو على كل معاوية سوف يسيطر على الحكم بحسب موازين القوى العامة. فإذن أنا أقدم له هذا، وأربحها كنقطة الآن، ولكن أشرطها بأن تكون على كتاب الله وسنة رسوله. هذا واحد. الثاني: أن هذه فترة مؤقتة، سبع سنوات، ثمان سنوات، أكثر، أقل، لا تمتد في أبنائه، ولا تستمر في بني أمية، وإنما بعد أن يموت معاوية، يكون الحكم للحسن، وإن قضى، في هذه الأثناء قبل معاوية، يكون للحسين، فإن قضى الحسين، يكون شورى بين المسلمين، لا مجال لأن يستمر هذا في الأسرة الأموية، وهذه من أهم النقاط.

ثم بعد ذلك، إعطاء الأمان العام، لعامة المسلمين، ثم لخصوص شيعة علي، ثم بشكل أخص لأهل البيت، وجعل بندا ماليا إلى جانب ذلك؛ لحماية عوائل الشهداء، الذين استشهدوا مع أمير المؤمنين في صفين، والجمل والنهروان، استشهد عدد من المؤمنين إلى جانب علي، وكان الإمام يرفد هذه العوائل، بالمال؛ لإعانتها على الحياة، الآن مع ذهاب الخلافة من الإمام الحسن سيخسر هؤلاء ضمانا اجتماعيا، ومعاوية والدولة الأموية ربما لا تعتني بهم، لذلك حاول أن يضمن لهم مصدرا ماليا، فاتفق معهم على أن يكون خراج دار أبجر، وهي في من بلدات الأهواز، وخراجها السنوي، يبلغ كما قيل، ألف ألف درهم يعني مليون درهم. أن تكون بيد الحسن، حتى يستطيع الإنفاق منها على هؤلاء المحتاجين وعلى عوائل الشهداء مع أمير المؤمنين، وعلى حاجات الإمام (ع).

هذه نظرة خاطفة على بعض بنود الصلح التي أجراها الإمام الحسن المجتبى، ويتبين من ذلك فيها حكمة الإمام وحنكة الإمام الذي استطاع أن يسجل هذه الوثيقة التاريخية، ولو أن معاوية فيما بعد سوف لن يلتزم بها. إلا أن عدم الالتزام بها لن يضر بقوة هذه الوثيقة بل سيكون فضيحة على معاوية للمستقبل وللأيام.

سلام الله على أبي محمد الحسن الزكي، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بشفاعته وأن يحشرنا معه في الجنة، إنه على كل شيء قدير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

مرات العرض: 3411
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2593) حجم الملف: 23696.32 KB
تشغيل:

نظرة جديدة في آفاق حديث الثقلين
الدور العلمي والسياسي للامام الكاظم عليه السلام