الاقتباس القرآني في الخطبة الفدكية
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 8/5/1438 هـ
تعريف:

 

 الاقتباس القرآني في خطبة الزهراء الفدكية

كتابة الأخ الفاضل باسم النور

صياغة الأخ الفاضل عبد العزيز العباد

المقدمة:

   من خطبة لسيدتنا ومولاتنا سيدة النساء فاطمة عليها السلام وهي المعروفة بالخطبة الفدكية أنها قالت: ( عَهْدٌ قَدَّمَهُ إِلَيْكُمْ، وَبَقِيَّةٌ استَخْلَفَها عَلَيْكُمْ. كِتابُ اللهِ النّاطِقُ، والقُرْآنُ الصّادِقُ، وَالنُّورُ السّاطِعُ، وَالضِّياءُ اللاّمِعُ، بَيِّنَةٌ بَصائِرُهُ، مُنْكَشِفَةٌ سَرائِرُهُ، مُتَجَلِّيَةٌ ظَواهِرُهُ، مُغْتَبِطَةٌ بِهِ أَشْياعُهُ، قائِدٌ إلى الرِّضْوانِ اتّباعُهُ، مُؤَدٍّ إلى النَّجاةِ إسْماعُهُ. بِهِ تُنالُ حُجَجُ اللهِ المُنَوَّرَةُ، وَعَزائِمُهُ المُفَسَّرَةُ، وَمَحارِمُهُ المُحَذَّرَةُ، وَبَيِّناتُهُ الجالِيَةُ، وَبَراهِينُهُ الكافِيَةُ، وَفَضائِلُهُ المَنْدوبَةُ، وَرُخَصُهُ المَوْهُوبَةُ، وَشَرايِعُهُ المَكْتُوبَةُ)

صدقت مولاتنا وسيدتنا فاطمة بنت النبي محمد صلى الله عليه وآله

   هذه الفقرات من الخطبة المشهورة والمعروفة بالخطبة الفدكية للسيدة الزهراء سلام الله عليها، وقد تحدثنا في وقت مضى حول هذه الخطبة الشريفة في أسانيدها وفي تعرضها إلى العقائد الأساسية عند المسلمين في معرفة الله عز وجل ومعرفة النبي صلى الله عليه وآله ومعرفة الإمامة ونشوء التشيع لأهل البيت عليهم السلام وأيضاً تحدثنا عن مقاصد التشريعات الإسلامية في فترة سابقة.

    موضوعنا هنا يتناول القرآن الكريم في خطبة الزهراء ونُعرّج على جانب مهم بلاغياً وأدبياً وهو قضية الاقتباس القرآني في خطبة هذه الصديقة الطاهرة السيدة الزهراء سلام الله عليها.

   حديثها سلام الله عليها عن القرآن الكريم:

   في هذا الخطبة تتحدث عن أن الله سبحانه وتعالى جعل في الأمة وخلّف فيها ميثاقاً وعهداً وهو القرآن الكريم كِتابُ اللهِ النّاطِقُ، والقُرْآنُ الصّادِقُ، وَالنُّورُ السّاطِعُ، وَالضِّياءُ اللاّمِعُ، وهذا له ميزات بأنه بَيِّنَةٌ بَصائِرُهُ، مُنْكَشِفَةٌ سَرائِرُهُ إلى أواخر كلماتها صلوات الله عليها، في هذا المعنى يستفيد العلماء عدة أمور :

ماذا استشف العلماء من حديث الزهراء عليها السلام عن القرآن الكريم في هذا المقطع؟  

  • سلامة القرآن الكريم من التحريف

   أن القرآن الكريم لم يطرأ عليه تحريف لا بالزيادة ولا بالنقيصة، هذا الأمر الذي يؤكد عليه القرآن من جهة بوعد الله له بالحفظ ( إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )[1]، هذا المعنى أكده عليه كل المعصومين عليهم السلام، أن هذا القرآن هذا الكتاب مصدر هداية للبشر ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا كان سليماً عن التحريف زيادة ونقيصة ، وذلك لأن أي نوع من أنواع النقص في القرآن الكريم أو أي نوع من أنواع الزيادة فيه لا ريب أنها لن تهدي الإنسان وإنما تضله، فلو افترضنا مثلاً أن هناك آية أو آيتين أو عشر آيات أو أكثر أو أقل بانها ناقصة من القرآن الكريم فإن معنى ذلك أن الإنسان المسلم عندما يقرأ هذه السورة لن يصل إلى الهداية ، ستكون هدايته ناقصة بنقص هذه الآيات .

   والأمر أوضح عندما يكون فيه زيادة ، فلو أن شخصاً إدعى أن القرآن فيه آيات وضعت من قبل أشخاص وعمل على طبقها هذا الإنسان فإنه يعمل على غير هُدى الله سبحانه وتعالى وآنئذٍ ( قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ۚ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ۗ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ)[2] ، فمن جملة ما يستفاد من كلمات الصديقة الطاهرة سلام الله عليها، أن هذا القرآن الكريم هو عهد الله عز وجل، هو بقية الاستخلاف الإلهي عند الناس بعد أن كان النبي صلى الله عليه وآله لا يمكن أن يبقى بمقتضى ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ )[3]، لكن هذا العهد الإلهي الكتاب الناطق والقرآن الصادق والنور الساطع والضياء اللامع الذي له هذه الصفات متجلية ظواهره منكشفة سرائره قائد إلى الرضوان اتباعه مؤدي إلى النجاة استماعه هذا لا يمكن إلا أن يكون كاملاً لا يتطرق إليه نقص أو زيادة.

  • ظواهر القرآن الكريم حجة على الإنسان المسلم

   وهو مهم أيضاً أن الظاهر القرآني حجة على الإنسان المسلم فقد أُعطي القرآن الكريم لكي يكون دستوراً له وليكون دستوراً فلابد إن يكون مفهوماً بالنسبة إليه . لا يمكن أن تعطي دليل استعمال لجهاز مثلاً ويكون غير مفهوم بالنسبة إليه، لذلك قال ربنا سبحانه وتعالى: ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)[4]، هناك بحث عند علمائنا وهو هل أن ظواهر القرآن الكريم حجة للفقيه يستطيع أن يستنبط منها الأحكام، فإذا رأى مثلاً ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)[5]، يقول لك لفظة اغسلوا تدل على الإلزام والوجوب فإذن غسل الوجه واجب بنص القرآن الكريم ، هذا لا يتيسر إلا إذا قلنا أن ظاهر القرآن الكريم حجة وهذا ما التزم به أغلب المسلمين من مدرسة أهل البيت عليهم السلام ومن المدارس الإسلامية الأخرى، ولذلك فإنهم يجعلون ظواهر القرآن من الأدلة على الحكم الشرعي .

   نعم بعض أتباع أهل البيت عليهم السلام من أخوتنا في المدرسة الإخبارية وهي مدرسة رديفة للمدرسة الأصولية.

وفيها علماء فحول كبار بل أصحاب المجاميع الحديثية الكبرى هم محسوبون على هذه المدرسة هؤلاء قالوا نحن لا نستطيع أن نفهم القرآن الكريم، وإنما يفهمه من نزل بيتهم وهم محمد وآل محمد صلى الله عليهم أجمعين، فإذن لا بد ونحن نريد أن نفسر القرآن الكريم أن ننظر إلى أخبار وروايات أهل البيت عليهم السلام، وهذا الكلام حسب رأي علمائنا جزء منه صحيح وجزء منه غير صحيح، الجزء الصحيح منه أنه لا شك ولا ريب أن العلم بكل القرآن والإحاطة بكل ما فيه هذا محصور في محمد وأهل بيته لا يستطيع أحد من المسلمين كائناً من كان ،علماً وفهماً أن يقول أنا أحيط بعلوم القرآن الكريم ولو ادعى ذلك يمتحن ويسقط في الامتحان إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته الطيبين الطاهرين، الذين ورثوا هذا العلم من جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله ، فإذاً هذا المقدار من الكلام صحيح أن الإحاطة بعلم القرآن من أوله إلى آخره منحصر في أهل البيت، باقي العلماء يعلمون شيء كثير من القرآن الكريم ولكن لا يحيطون بعلم القرآن كله.

   والقسم الآخر الصحيح أيضاً أن أعماق القرآن الكريم وكل بطونه المختلفة إنما يعرفها النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومون عليهم السلام، أما سائر الناس بمن فيهم من العلماء المتبحرين ليسوا بهذا المقدار، هذا المقدار الصحيح من كلام إخواننا علماء المدرسة الاخبارية التي هي توازي المدرسة الأصولية السائدة الآن في مذهب أهل البيت.

   وأما القسم الآخر غير الصحيح فإننا نجد في القرآن الكريم آيات كثيرة منه آيات محكمات هن أم الكتاب وهذ الآيات المحكمات ميسرة للناس على اختلاف منازلهم ودرجاتهم أن يتدبروا فيها ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا )[6] ، ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)[7] ، هذا المقدار من الحث والتشجيع والدعوة إلى الانفتاح على القرآن يعني أن بإمكان الناس على اختلاف درجاتهم العلمية أن يتناولوا من القرآن الكريم بحسب مستوياتهم، فالفقيه يقدر على مائدة القرآن ما يشبع نهمه ، وكذلك يستفيد الإنسان العامي عندما تقول له (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)[8]، هذه واضحة بالنسبة له يفهم عندما تقول له (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا)[9]، وأمثال ذلك.

فإذا تقصد الإحاطة بالقرآن الكريم من أوله إلى أخره وبإعماقه فهذا من اختصاص أهل البيت عليهم السلام وفي طليعتهم سيدهم وسيدنا محمد صلى الله عليه وآله، وأما المقصود أنه نحن لا نفهم شيئاً من القرآن الكريم أصلاً فهذا الوجدان يخالفه.

   نحن نجد أن هناك مفسرين كثيرين من مختلف المدارس الفقهية، يفسرون القرآن الكريم وفي كثير من الآيات يكون تفسيرها تفسير صائب، فنجد الإنسان المسلم الذي يعرف اللغة العربية عندما يقرأ القرآن لا يقرأ ألغازاً وإنما يقرأ آيات يعرف معانيها بحسب تعقله وقدرته الذهنية، فإذن ظواهر القرآن الكريم بهذا المعنى حجة لذلك.

   قالت سيدتنا الزهراء عليه السلام بعد ما وصفت القرآن الكريم كِتابُ اللهِ النّاطِقُ، والقُرْآنُ الصّادِقُ، وَالنُّورُ السّاطِعُ، وَالضِّياءُ اللاّمِعُ تقول بينة بصائرة متجلية ظواهره، هذه الظواهر والبصائر واضحة للناس يستطيع الإنسان أن يصل إليها.

بلاغة الزهراء عليها السلام في طريقة الاقتباس من القرآن الكريم:

   قسم آخر من أحاديث السيدة الزهراء عليها السلام حول القرآن في هذه الخطبة ما يرتبط بالاقتباس القرآني وهذا من آيات البلاغة العجيبة في لسان هذه المرآة الجليلة صلوات الله وسلامه عليها، الاقتباس في اللغة العربية من فنون الشعر والنثر وآيات البلاغة ، أن يكون الخطيب أو الشاعر قادراً على اقتباس كلام لغيره وتضمينه في كلامة هذا يسمونه اقتباس.

والكلمة جاءت من القبس في قضية نبينا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام قال ( لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى )[10]، عندما خرج مع زوجته بعد أن وفى لنبي الله شعيب بما اتفقا عليه من الأجرة ( قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ )[11]، نبي الله موسى عليه السلام مع أن الاتفاق كان على ثمان سنوات من العمل لكن أتمها عشر سنوات.

وهذا مطلوب من الإنسان أن يتم للطرف الأخر ، على خلاف ما قد يوجد عند بعضهم ، فهذا مثلا لديه سائق يعمل عنده بألف ريال ألف مثلا ، فيحاسبه حين الراتب على النقير والقطمير. لأنك فعلت كذا ينقص من راتبك هذا المقدار ، ولأنك تركت كذا يخصم عليك هذا المقدار. غير أن نبي الله موسى يجعل تماماً ووفاءً فوق الاتفاق عشرين في المائة تقريباً أصل الاتفاق ثمان سنوات عمل في مقابل أن  أتزوج بنتك هذا هو الوفاء، ويعلمنا القرآن من خلال ذلك أنه عندما تريد أن تعطي فأوف الكيل ، ولا تكن من المطففين ( الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ )[12].

   نبي الله موسى خرج في ليلة برد شاتية ومعه زوجته وأغنامه فلاحت له نار من مكان بعيد في الصحراء قال ( إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً )[13] فذهب موسى عليه السلام ليقتبس ناراً أي يأخذ قبساً، ومن هنا أُخذ هذا المصطلح في اللغة العربية. فحينما يتكلم إنسان ويستشهد بكلام شاعر أفضل منه ، يقال اقتبس منه وهكذا متحدث يتحدث فيقتبس من كلام الله عز وجل أو من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله ليقوي المطلب .

اثنا عشر اقتباسا بديعاً للزهراء عليها السلام من القرآن الكريم:

   فاطمة الزهراء عليها السلام قامت بالاقتباس من آيات القرآن الكريم في عملٍ بلاغيٍ لا نظير له، فالاقتباس أيضا درجات أعلاها ما إذا كان الكلام المأخوذ من القرآن الكريم يجري مع كلام المتكلم، كأنك لا تدري كأن هذا قرآن متسلسل بحيث يضمن الآية أو جزء من الآية. الزهراء عليها السلام في هذا المقدار التي خطبتها في المسجد وهي ليست طويلة تعتبر بالمقدار الذي وسع الوقت وُجد أن هناك أثنا عشر اقتباس لها من القرآن الكريم من أبدع ما اقتبسته سلام الله عليها بعضها آية أو جز من آية بعضه لا، أكثر من آية في جملة واحدة وتتركب كأنما هي كلام واحد.

   وبما أننا وصلنا بالحديث إلى هنا دعنا نتحدث عن موضوع مهم يرتبط بهذا الأمر كمقدمة قصيرة ، بعضهم ولا سيما قسم من هؤلاء الطائفيين جاءوا وقالوا تعالوا أنتم كيف تقرؤون دعاء أبو حمزة الثمالي في ليالي شهر رمضان، هذا أصلاً في آيات غلط فإما أن يكون إمامكم الذي قال هذا الدعاء غلطان وليس حافظاً للقرآن أو أن هذا الدعاء ليس للإمام زين العابدين، لو كان هؤلاء يعرفون معنى الاقتباس أو لديهم إلمام قليل باللغة العربية ما كان لهم أن يعترضوا بهذا الاعتراض في دعاء أبي حمزة الثمالي فيقولوا مستشكلين في جملة (واسألوا الله من فضله أن الله كان بكم رحيما) لا يوجد آية في القرآن إنما الآية الموجودة (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)[14]، فمن أين أتيتم بهذا؟!

الجواب على ذلك:

   هذا نوع من أنواع الاقتباس بعد قليل سوف نبين ذلك، أن المتحدث الداعي يأتي بفقرة من آية ويلصقها بالدعاء مثلاً، ثم يفتح آية أخرى ويأخذ ما يناسبها، نحن عندنا آيتان، آية في سورة النساء (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)[15]، وآية أخرى ( وإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا )، الإمام عليه السلام رأى ( إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) لا يتناسب مع مسار الدعاء، الدعاء يحتاج إلى ماذا ؟ يحتاج إلى فضل ورحمة لذلك جاء بقطعتين من آيتين كما نحن نعمل الآن نفتح قوس ( وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ) ونغلق القوس ونضع فاصلة ونفتح قوس ثاني ونقول ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) ونغلق القوس.

   هاتين فقرتين من آيتين ولكن سياق الحديث جعلهم هكذا لا أن هذه آية واحدة، فلو أن الأمام زين العابدين عليه السلام جاء بالآية ( وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا )، لا ينسجم مع حالة الاسترحام والاستعطاف في الدعاء الموجود.

الاقتباس الأول:

( وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبيّة فـ (اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون) )[16]

   بعد هذه المقدمة القصيرة ، فلنرى الآن نرى كيف اقتبست فاطمة الزهراء عليه السلام العديد من الآيات المباركات من ذلك فذكرت أول شيء ( وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبيّة فاتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون )، هذه آية قرآنية تناسب أن الله سبحانه وتعالى حرم الشرك لأجل الخلاص لله بالربوبيّة هنا لم قالت فقد قال الله ( فاتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون )، وإنما ما يعرف نظام الاقتباس يفتهم أن هذه آية قرآنية (وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبيّة) هذا كلام الزهراء عليها السلام فأفتح قوس (فاتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون)، هذا المورد الأول.

الاقتباس الثاني:

( أطيعُوا اللهَ فيما أمَرَكُمْ بِهِ وَنَهاكُمْ عَنْهُ، فَإنَّه (إنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ العُلِماءُ))[17]

في كلامها سلام الله عليها حيث قالت: أطيعُوا اللهَ فيما أمَرَكُمْ بِهِ وَنَهاكُمْ عَنْهُ، فَإنَّه إنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ العُلِماءُ). سورة فاطر.

   كلامها بهذا المقدار أطيعُوا اللهَ فيما أمَرَكُمْ بِهِ وَنَهاكُمْ عَنْهُ، فَإنَّه ( إنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ العُلِماءُ). يعني إنما يخشى العلماءُ الله سبحانه وتعالى.

الاقتباس الثالث:

( اعْلَمُوا أنِّي فاطِمَةُ، وَأبي مُحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْءاً، وَلا أقُولُ ما أقُولُ غَلَطاً، وَلا أفْعَلُ ما أفْعَلُ شَطَطاً (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيم ))[18]

وفي مورد ثالث تقول سلام الله عليها: ( اعْلَمُوا أنِّي فاطِمَةُ، وَأبي مُحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْءاً، وَلا أقُولُ ما أقُولُ غَلَطاً، وَلا أفْعَلُ ما أفْعَلُ شَطَطاً ) تعني أنا عندما أخاطبكم الآن وأتكلم معكم وأوضح لكم فِعلي هذا ليس فعلاً خطأ ولا كلامي كلام غلط ، بعد ذلك تقول: ( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيم ) هذه من بداية لقد جاءكم هي آية قرآنية ولكن في الاسترسال كأنما صارة جزء من الكلام وهذا ما يسمى بالاقتباس البليغ والبديع بحيث أنك لا تميز لأول وهلة بأن هذا الكلام من كلام المتكلم أو من كلام أخر.

  الاقتباس الرابع:

(وَأَنْـتُمْ تزْعُمُونَ أن لاّ ارْثَ لَنا، أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ تَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[19]

تقول سلام الله عليها: ( وَأَنْـتُمْ تزْعُمُونَ أن لاّ ارْثَ لَنا، أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ تَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) الفقرة الأولى هي كلامها سلام الله عليها والفقرة الثانية هي آية من آيات القرآن الكريم من ( أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ تَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) هذه آية من سورة المائدة ، تلاحظ على مساحة القرآن الكريم مرة اقتباس من من فاطر و مرة اقتباس من سورة المائدة مرة اقتباس من سورة سبأ ومرة اقتباس من سورة التوبة وهكذا من كل مكان تنتقي الفقرة المناسبة للاقتباس.

الاقتباس الخامس:

(ابتداراً زعمتُم خوفَ الفِتنَة، (ألاَ فِي الفِتنَة سَقَطُوا، وَإِنَّ جَهَنَّم لَمُحِيطَةٌ بالكَافِرينَ))[20]

   في هذا الموضع تقول ( ابتداراً زعمتُم خوفَ الفِتنَة ) يعني أنتم عملتم هذا العمل وذهبتهم سريعاً خلف السقيفة والبيعة ولا انتظروا أحد ولا تسألون عن أحد ولا تنظرون إلى وصية رسول الله تقولون حتى نبادر لكي لا تكون فتنه وتقع هناك مشكلة ويصبح فراغ في القيادة (ابتداراً زعمتُم خوفَ الفِتنَة، ألاَ فِي الفِتنَة سَقَطُوا، وَإِنَّ جَهَنَّم لَمُحِيطَةٌ بالكَافِرينَ)، هذه من (ألاَ فِي الفِتنَة سَقَطُوا.. إلى أخرها) هذه آية من آيات القرآن الكريم وهكذا سائر الموارد نحن لا نريد الإطالة فيها ولكن نريد أن نسرح النظر في كيفية هضم فاطمة للقرآن الكريم واستجلاب معانيه وتركيب هذه الآيات مع كلامها بحيث يكون كلامها مع آيات القرآن كأنها وحدة واحدة لا فرق بين المقدمة وبين المؤخرة.

الاقتباس السادس:

(وكتاب الله بين أظهركم أموره ظاهرةٌ، وأحكامُهُ زاهرةٌ، وأعلامه باهرةٌ، وزواجرُهُ لائحةٌ، وأوامره واضحة، وقد خلفتُموه وراء ظهوركم، أرغبةً عنه تُريدون؟ أم بغيره تحكُمُون؟ (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)[21] ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ))[22]

   لاحظوا مثلاً في هذا المقطع تقول (وكتاب الله بين أظهركم أموره ظاهرةٌ، وأحكامُهُ زاهرةٌ، وأعلامه باهرةٌ، وزواجرُهُ لائحةٌ، وأوامره واضحة، وقد خلفتُموه وراء ظهوركم، أرغبةً عنه تُريدون؟ أم بغيره تحكُمُون؟ (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا), هذه ( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا )، لو أن أحداً لا يعرف أن هذه آية من القرآن الكريم لتصور أن هذا جزء من كلام الزهراء عليها السلام لشدة الانسجام بينها وبين ما سبق. بعد هذا أيضاً وراءه مباشرة ( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا )، ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )، ربما واحد من هؤلاء الجهلة وأصحاب الإشكالات يقول لا يوجد عندنا آية بهذا الشكل، فهذه آية في سورة الكهف وهذه آية في سورة آل عمران. يغفل هؤلاء عن أن نظام الاقتباس البلاغي هو بهذه الطريقة، فكما قلنا في دعاء أبي حمزة الثمالي ( وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) هذه جزء من آية (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) جزء من آية أخرى، هنا تمام نفس الكلام وآيتين كأنهما متلاصقتين ولكن كل واحدة في سورة مختلفة عن الآخرة.

الاقتباس السابع :

( فأنّى حرتم بعد البيان ؟ وأسررتم بعد الإعلان؟ ونكصتم بعد الإقدام؟ وأشركتم بعد الإيمان؟ بؤساً لقوم نكثوا أيمانهم ) (أتخشونهم فالله أحقّ أن تخشوه إن كنتم مؤمنين).

في هذا المورد أيضاً تقول سلام الله عليها (فأنّى حرتم بعد البيان ؟ وأسررتم بعد الإعلان؟ ونكصتم بعد الإقدام؟ وأشركتم بعد الإيمان؟ (بؤساً لقوم نكثوا إيمانهم) هذا جزء من آية، الجزء الآخر من الآية في آخرها (أتخشونهم فالله أحقّ أن تخشوه إن كنتم مؤمنين)[23]، وهكذا تسير الزهراء عليها السلام في أثنا عشر مورداً من الموارد التي اقتبست فيها من آيات القرآن الكريم ما يناسب حديثها ولولا أن بلاغة القرآن الواضحة بهذا المعنى لتصور الإنسان هذا جزء من كلام الزهراء عليها السلام ، وإنما هي مقتبسة من نوره ومستضيئه بكلام ربها عز وجل تبقى في ما بعد آيات أخر لا نستطيع أن نتحدث عنها، الشاهد أن هناك أثنا عشر مورداً .

كيف تمكنت سيدة في ريعان شبابها أن تخطب بهذه الخطبة البليغة في ظل الظروف الحرجة التي أحاطت بها؟

تود أن تشير إبى نقطة وهي أن لا يكون هناك خلط بين الاقتباس والاستدلال ، فالذي تحدثت عنه ورث سليمان داوود ويوصيكم الله للذكر مثل حظ الأنثيين ذاك استدلال ليس مرتبط بهذا الموضوع، هذا الاقتباس شيء آخر، شيء بلاغي وأدبي وأقناعي لا يستطيع أن يأتي به إلا الكامل في هذه الجهة هذا مع أن الزهراء عليها السلام في ذلك الوقت كانت كل الظروف لا تساعدها على مثل هذا الأمر ، للتو قد فقدت أباها رسول الله صلى الله عليه وآله ، فالآن المرأة فاقدة لأبيها في عز شبابها ليست في وقت تنظر فيه إلى قضايا البلاغة والأدب ومثل هذه الأمور، إضافة إلى وجودها في المسجد أمام هؤلاء الذين اغتصبوا الخلافة من زوجها وأخذوا منها فدك وآذوها وأرعبوا أبنائها واضطهدت في كل هذه الأمور ، لكن هؤلاء لا ينطقون إلا عن معدن الحكمة والفصاحة والمعرفة فهؤلاء صلوات الله عليهم هم قرناء القرآن ( إني تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكتم به، لن تضلُّوا بعدي أبدا، كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ) عجنت طيتهم بالقرآن الكريم توغل القرآن الكريم إلى أعماق قلوبهم فكانت كلماتهم تنطق بالقرآن وأحكامهم تستمد من القرآن وأفعالهم تطبق القرآن ولذلك لا نستغرب عندما ينطق المؤرخون أن رأس الحسين سلام الله عليه كأن يتلوا القرآن وهو مقطوع ومرفوع على السنان.

   ونحن في زمن سابق ذكرنا التوجيه العلمي لهذا الموضوع وذكرنا ما نقله الشيخ الصدوق أعلى الله مقامه في هذا الجانب بالتحديد نقل من غير مصادرنا من أن رأس الحسين سلام الله عليه كان في الكوفة يتلوا القرآن وفي الشام يتلوا القرآن حتى لا تنطوي على الناس أكذوبة الأمويين أن هؤلاء مخالفون لقرآن الله وإلى كتاب الله وأنهم ضد الإسلام وضد الشريعة أنطق الله سبحانه وتعالى هذا الرأس الشريف، يقول بعض من حضر بينما كنت أنا على بوابة دمشق الشام وإذا بتلك الرؤوس قد أقبلت تقدمها رأس أزهري قمري مشرق وقد تلطخ بالدم وإذا بي أسمعه يقرأ ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا )[24]، التفت إليه رأسك يبن رسول الله أعجب وأعجب رأس مقطوع تجري منه الدماء وتتجمد عليه الدماء و التراب مع ذلك يرتل القرآن الكريم.

 

[1] ) سورة الحجر : آية 9

[2] ) سورة يونس : آية 35

[3] ) سورة الزمر : آية 30

[4] ) سورة القمر : آية 22

[5] ) سورة المائدة : آية 6

[6] ) سورة محمد : آية 24

[7] ) سورة القمر : آية 22

[8] ) سورة النحل : آية 90

[9] ) سورة الإسراء : آية 32

[10] ) سورة طه : آية 10

[11] ) سورة القصص: آية 27

[12] ) سورة المطففين : آية 2-3

[13] ) سبق ذكر المصدر

[14] ) سورة النساء : آية 32

[15] ) المصدر السابق.

[16] ) سورة آل عمران : آية 102

[17] ) سورة فاطر : آية 28

[18] ) سورة التوبة : آية 128

[19] ) سورة المائدة : آية 50

[20] ) سورة التوبة : آية 49

[21] ) سورة الكهف : آية 50

[22] ) سورة آل عمران : آية 85

[23] ) سورة التوبة : آية 13

[24] ) سورة الكهف : آية 9

مرات العرض: 3498
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2566) حجم الملف: 42190.06 KB
تشغيل:

سيرة الامام الحسن المجتبى 1438
ميزات الخطبة الفدكية ومواضيعها