حدود العلاقة في صداقة المتماثلين
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 17/9/1437 هـ
تعريف:

حدود العلاقة في صداقة المتماثلين
كتابة الأخت الفاضلة أمجاد عبد العال 
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين المكرمين
ورد في الحديث عن أمير المؤمنين سلام الله عليه، أنه قال: "ابْذُلْ لِصَدِيقِكَ كُلَّ الْمَوَدَّةِ، وَلَا تَبْذُلْ لَهُ الطُّمَأْنِينَةَ، وَأَعْطِهِ كُلَّ الْمُوَاسَاةِ، وَلَا تُفْضِي إِلَيْهِ بِكُلِّ الْأَسْرَارِ، تُوفِي الْحِكْمَةَ حَقَّهَا، وَالصَّدِيقَ وَاجِبَهُ". وفي حديث آخر أيضا، منقول عنه: "أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَومًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَومَا مَا". صدق سيدنا ومولانا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه.
حديثنا لا يزال ضمن إطار العلاقات الاجتماعية، وقد سبق أن تحدثنا أن الأصل أن يقوم الإنسان باكتساب الإخوان والأصدقاء، إلا إذا طرأ طارئ وعنوان آخر يؤخر هذا الأصل. مثل أن يكون ذلك الطرف طرفا سيئا أو أنه يخشى أن يحسب عليه هذا الإنسان، أو ما شابه ذلك، من مثل أن يستفرغ يوم الإنسان وزمانه في هذه العلاقات. وقد سبق أن تحدثنا عن هذا بالتفصيل. وانتهينا إلى أن الأصل الأصيل هو أن يتحرك الإنسان في اكتساب العلاقات الاجتماعية والصداقات المناسبة. هل لهذا الأمر من حدود؟ هل من قيود في العلاقة؟ أو لا؟ بأي نحو اتفق، وكيفما كان.
يظهر من خلال الروايات أن هناك نوعين من الحدود والتوجيهات. هناك توجيهات وحدود أخلاقية تعطي لهذه العلاقة مع الأصدقاء بعدها الصحيح. وهناك حدود وتوجيهات شرعية. والحديث هنا ضمن إطار صداقة المتماثلين. أي رجل مع رجل، امرأة مع امرأة. أما في الاختلاف في الجنس، له حديث آخر، يأتي إن شاء الله.
حديثنا الآن هو في حدود تشكيل العلاقة والصداقة بين المتماثلين. شاب في الثانوية مثلا، مع آخر في الثانوية، أو في المتوسطة مع صديق في المتوسطة، أو رجل ناضج مع مثله.
الإمام أمير المؤمنين (ع) يعطي لنا - في هذه الكلمات التي نقلناها - حدودا أخلاقية. الحد الأول: ما يعبر عنه "هَوْنًا مَا"، "أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا"، لماذا؟ "عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَومَا مَا". أحبب بتعادل. اجعل صداقتك متوازنة. لا تهجم على هذه الصداقة بكل جوارحك فتشغلك عن أمر دينك ودنياك، وعن أصدقائك الآخرين، وعن بيتك، وعن أدوارك الاجتماعية. "يابا شنو!"، "أنا عندي صديق فلان. ليل رايح إله، نهار رايح إله، الطلعة وياه، السفرة وياه، الجية وياه، الروحة وياه"، هذا خلاف للتوجيه الإمامي: "هَوْنًا مَا".
بل حتى على مستوى العواطف. أحيانا يتعلق إنسان بصداقة إنسان، يحبه. فيذوب في محبته، ولا يجعل حدودا لمشاعره وعواطفه. وهذا أمر ليس مطلوبا. إذا مدح، يمدح بلا حدود. وإذا تكلم، يتكلم بلا حدود: "هذا أفضل واحد في البشر"، "أحسن إنسان على وجه الدنيا"، "أفضل من رأيت"، "ما رأيت أفضل من هذا أبدا، ولن أر، ولن ير أحد غيري". لكن، بعد مدة من الزمان، – وهذه تحدث - كلمة تصدر منه، – أي من ذاك الصديق بغير تقدير – ينقلب الأمر. فإذا به يقول: "هذا الإنسان إنسان سيء"، "لا يستحق"، "أنا ضيعت عمري معه"، ما شابه. ماذا عن كلامك يوم أمس؟! وماذا كلامك اليوم؟! عليك بالاعتدال. أحبب الحبيب هونا ما، وأبغض البغيض هونا ما. تعادل. لا توجد صورة كالحة السواد لا يوجد فيها أي نقطة بياض، ولا توجد صورة ناصعة البياض ليس فيها أي نقطة سواد في هذه العلاقة. أنت الآن على أثر إقبالك عليه تجد هذا الجانب، غدا يتكشف لك عن جانب آخر، كان خفيا عليك. حتى ذاك اليوم الذي يكون فيه هذا التكشف، لا يصح أن تقول إن هذا أسوأ إنسان، وقد ضيعت عمري معه، وخُدعت فيه، وإلا فهو لا يساوي حتى شسع نعل. حتى هذا الأمر ليس صحيحا.
هذه طريقة قسم من الشعراء الذين لا يلاحظون الحقائق. وفي رأيهم، أنه كلما بالغ الإنسان في المدح أو القدح، جاء شعره أفضل.
ينقل أن أحد الشعراء قصد كافور الأخشيدي. والأخشيديون: جماعة من العبيد المماليك، بشرتهم سوداء، وأصولهم من هذا النحو، أي مماليك في الأصل. استطاعوا في فترة من الزمان أن يسيطروا على ملك مصر، فصاروا يملكونها. أي هم حكامها. وعرفوا بالأخشيديين. ومن أشهرهم: كافور الأخشيدي.
كافور هذا كانت سحنته سوداء، شديدة السواد. وقد قصده أحد الشعراء وبدأ يمدحه. فأعطاه كافور مقدارا من المال. واستمر هذا الأمر لفترة من الزمان. ومدحه كافور بأشعار كثيرة، من ضمنها:
"قواصد كافور توارك غيره"، "ومن قصد البحر استقل السواقي"، بمعنى قاصدو كافور تاركون لغيره. لا يحتاجون غيره. هو يكفي من يقصده. "ومن قصد البحر استقل السواقي". الآن، يريد أن يمدح حتى السواد في بدنه! يريد أن يحوله إلى جمال وشيء استثنائي، فماذا قال؟ قال: "فجاءت به إنسان عين زمانه"، "وخلت بياضا خلفها ومآقيا".
هذه العين، فيها قسمان، الأول: سواد العين الذي يسمونه بإنسان العين، والجمال فيه. لاحظ مثلا: إذا صارت هذه العدسة سوداء اللون كان لها جمال، أو بنية اللون كان لها جمال آخر، وهكذا. أما البياض فشيء عادي ليس له قيمة حقيقية. الجمال الحقيقي في هذه العدسة ولونها. فيقول الشاعر: هذا السواد الذي هو صانع الجمال في عين الإنسان، كأنما عين الزمان كلها هو هذا. كافور هذا هو عين الزمان، وأما باقي البشر فكلهم بياض، ليس فيهم جمالا، ولا تألقا. وإنما عين الزمان، الجمال الذي فيه، هو هذا العبد الأسود.
هذا لما كان في علاقة حسنة معه. فهو المقصد الذي إذا قصده القاصد لا يلتفت إلى غيره. "قواصد كافور توارك غيره"، "ومن قصد البحر استقل السواقي". أيضا، حتى النقطة التي بميزان الغير ليست جمالا - بغض النظر الآن: هل هذه حالة عنصرية أو غير ذلك؟ لا، لكن هذا السواد الشديد لا يعتبر في النظر العرفي جمالا – صورها في شعره أنها جمال الزمان كله! جمال الدهر كله! لأنه ماذا؟ إنسان عين الزمان. هذه مدة، ومرت.
ثم حدث بينهم ما يحدث بين الأصدقاء: اختلاف في الرأي، في المذاق، كلام هنا، كلام هناك،  هذا يوافق، ذاك يخالف، حتى طرده كافور. الشاعر ملَّ أيضا أن يمدحه كل يوم، وذاك كافور يدري أنه يكذب عليه. فرفضه وما أدخله. أي منعه وحجبه من الدخول عليه. فأتى الشاعر بشعر مختلف: "لا تشتري العبد إلا والعصا معه"، "إن العبيد لأنجاس مناكيد". أين عين الزمان! أين "قواصد كافور توارك غيره"! ما الذي جرى؟! الآن صار عبدا! وصار يلزم أيضا أن تأخذ معاك عصاك لتشتغل على تأديبه!
وكلام أكثر من هذا: "من علم الأسود المخصي مكرمة"، "أقومه البيض أم آباؤه الصيد"، "أم أذنه في يد النخاس دامية"، "أم قدره وهو بالفلسين مردود". كيف حدث هذا؟! حتى تقول: "وذاك الفحول البيض عاجزة"، "عن الجميل فكيف الخصية السود"، هذا إقذاع ما بعده إقذاع! تجن إلى أقصى درجة ممكنة، فيصعب على الإنسان – بعدها - أن يتصور شناعة في الذم والشتم أكثر من هذا.
أذنه مدماة في يد النخاس، ويباع من أحد إلى أحد، وهذا لا يعرف ما المكرمة ولا يدل طريق المكارم، من أين له أن يدلها؟! من آبائه، آباؤه ليسوا أهل كرامة. هونا، ما الذي جرى؟ "أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا" وقتما تقول، لا تقل: هذا عين الزمان. نعم، استقبلك، أكرمك، امدحه، يستحق. أما أن يصبح بما عنده من مال عين الزمان في شعرك، وأن من يقصده، يترك غيره! ثم بشعرك تنقلب إلى هذا المقدار من الشناعة في القذف، هذا لا يصح. نحن نأنف أن نقبل هذا الأسلوب. لكن أحيانا قسم من الناس هم هكذا مع أصدقائهم.
فتاة تصادق فتاة. تمدحها: "هذي كذا"، "وهذي فيها"، "وهذي كاملة الأوصاف"، "وهذي ماكو أحسن منها"، ثم يحدث زعلا بينهما، فتحط الواحدة من الأخرى وتلصق فيها ما فيها وما ليس فيها. هذا لا يصح. "أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا"، بتعادل. لماذا؟ لأنك لا تضمنه. غدا هو يتغير عليك، أو أنت تتغير عليه، "عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَومًا مَاَ"، "وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا" أيضا، "عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَومَا مَا".
ولقد رأينا في حياتنا ورأيتم، أن أشخاصا – سواء من سياسيين أو اجتماعيين أو من عامة الناس – في فترة من الفترات يكون من أبغض الأشخاص إليهم: فلان. تتغير الظروف، تتغير الأمور، فإذا به يصبح واحدا من أعز أصحابه. لا ذاك كان صحيح، ولا هذا صحيح. ينبغي أن تكون متعادلا، متوازنا. لا يوجد كامل بعد خالق الخلق إلا المعصومون. المعصوم كامل، غير هؤلاء فلا بد أن يكون فيه إشكال ما سلبي. وحتى ذاك الإنسان السيء، لا بد تكون فيه نقطة ما إيجابية. فقد يكون ظرف من الظروف تجتمع معه. هذا توجيه أول: أن يكون الإنسان في حبه وبغضه كما يوصي أمير المؤمنين (ع): "هَوْنًا مَا".
الأمر الآخر - وقد يكون مترجما لهذا - كيف "هَوْنًا مَا"؟ ماذا نصنع في المشاعر؟ ماذا نصنع في الممارسات؟ يقول: "ابْذُلْ لِصَدِيقِكَ كُلَّ الْمَوَدَّةِ"، المودة لا بد أن تبذلها له. يحتاج إلى ثناء على أعماله الحسنة، ابذل له ذلك. لا تصبح بخيلا في العواطف. بمقدار متعادل، ابذل له هذه المودة، أظهرها على لسانك. شخص - على سبيل المثال - ملتزم دينيا، فجيد أن تقول له: أنا يعجبني فيك أنك ملتزم دينيا. شخص لديه نشاط اجتماعي، يخدم الناس، ينفعهم، لا تقل: هو يعلم، وأنا أقدر هذا في داخلي، لا. حوِّلها إلى مودة. أثني عليه في مثل هذا الأمر. وإذا أمكن أن تحوِّل هذه المودة إلى فعل من الإحسان أيضا، فافعل. ساعده. قم بما يحب أن تقوم به من أمور. "ابْذُلْ لِصَدِيقِكَ كُلَّ الْمَوَدَّةِ".
ليس مطلوبا من الإنسان أن يأتي بمشاعر زائفة. لا، هذا كذب. لكن في نفس الوقت لا يكن ضنينا بعواطفه وبخيلا بمشاعره؛ لذلك عندنا في الأحاديث: "إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُم أَخَاهُ فَلْيَقُلْ لَهُ إِنِّي أُحِبُّكَ". هذا يبدأ من البيت مع الزوجة، ويمر بالأولاد، أن تبدى لهم المودة، وينتهي بالمجتمع أيضا، أن يخبر الإنسان أخاه: "أنني أحبك"، "فلان شيء يعجبني فيك"، "أرتاح إلى كذا منك"، هذا من جهة يعمق العلاقة، ومن جهة أخرى، يبين إلى هذا الإنسان أن هذا الأمر الحسن هو محط تقدير الناس. أما أن يقال: بين الأحباب تسقط الآداب، فلا حديث عن هذا، لا عن الله ولا عن رسوله ولا عن شخص عاقل، إذا كان المقصود منه أن لا تقوم بحق أخيك. "لَيْسَ بِأَخِيكَ مَنْ ضَيَّعْتَ حَقَّهُ". يقول: تسقط الآداب، لا مشكلة. أتى، فما احترمته: بين الأحباب تسقط الآداب. سلَّم، فلم أرد عليه: بين الأحباب تسقط الآداب. قدم إلى مكان محترم، جلس فيه جلسة محترمة، جلست أنا قدامه، وضعت رجلي على الأخرى، وجعلت قدمي في وجهه: بين الأحباب تسقط الآداب. هذا أمر غير صحيح على الإطلاق. بين الأحباب – المفروض – تزداد الآداب. نعم، التكلفات الزائدة عن الحد، مع إسقاط الطرف الآخر لها، من الممكن أن يقال بشأنها هذا. أما أن يتخلى الإنسان عن أخلاقه، عن آدابه، فيضيع حق أخيه، إذا قدم أجنبي مثلا، يجلس معتدلا، مثلما يفعل في صلاة الجماعة، لا يتحرك. لكن إذا أتاه صديقه وأخوه المؤمن، تجد الأمر منه مختلفا تماما.
فأول شيء: ابْذُلْ لِصَدِيقِكَ كُلَّ الْمَوَدَّةِ"، من مصاديق المودة: الهدية، الهبة، المشاعر الحسنة، ذكره بما هو فيه من الأشياء الحسنة، إظهار الارتياح إليه، المصافحة، أحيانا المعانقة. هذه كلها إظهار للمودة.
في مقابل: "ابْذُلْ لِصَدِيقِكَ كُلَّ الْمَوَدَّةِ"، يقول الحديث في تتمته: "وَلَا تَبْذُلْ لَهُ الطُّمَأْنِينَةَ"، "ابْذُلْ لِصَدِيقِكَ كُلَّ الْمَوَدَّةِ، وَلَا تَبْذُلْ لَهُ الطُّمَأْنِينَةَ". أي لا تنفتح عليه بكل أسرارك: ماذا بينك وبين زوجتك، بينك وبين أبيك، بينك وبين أمك، بينك وبين رب العمل. فتمسي أمامه صفحة بيضاء مكشوفة. هذا غير مطلوب. أساسا، الأفضل للإنسان أن يكون كما قال الحديث: "مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَتْ الخِيَرَةُ بِيَدِهِ". إذا ظلت أسرارك عندك وحدك، فيمكنك التحرك بها كما تحب. لكن إذا تحولت إلى مشاعة بين الناس، ذاك الوقت، تكون مراقبا في كل حركة من تتحركها: "ما جا العزيمة الفلانية"، "إيه، لأن العلاقة سيئة"، "اشمدريك العلاقة بينهم سيئة"، "خبرني هو صارت معركة بينه وبين فلان طويلة عريضة". هذا الآن، أصبح رقيبا عليك، يفسر أعمالك وأمورك. "اليوم مسافر بدون زوجته"، "طبيعي يسافر بدون زوجته"، "ليش؟"، "بينهم مشاكل وقضايا وخلافات على الفلوس، هي موظفة، ومي راضية تعطي فلوس، فعاقبها بكذا".
لماذا تكشف نفسك وأمرك؟! ما هو الداعي إلى ذلك؟! "وَلَا تَبْذُلْ لَهُ الطُّمَأْنِينَةَ"، لا سيما أن ود أي إنسان غير محرز إلى الأخير. هو يتغير عليك، أو أنت تتغير عليه. فإذا سلمته ملفك كاملا، ذاك الوقت، لا تعلم ماذا يصنع بهذا الملف. قد يكون إنسانا غير حافظ للجميل، فيؤذيك بما علمه عنك منك. حتى لو كان حافظا للجميل، ما الداعي إلى ذلك؟! في الحديث والأثر: "سِرُّكَ مِنْ دَمِكَ فَلَا يَجِرِيَنَّ فِي غَيرِ أَوْدَاجِكَ". كيف أن ما يمشي في عروقك هو دمك فقط، ليس دم غيرك، هكذا سرك.
نعم، ليفضي الإنسان – بمقدار معين - إلى بعض المقربين من أصحابه، ممن يحتمل عندهم حلا لمشكلته ويأمن أنهم يتسترون عليها، هذا لا مانع منه. أنا أعلم أن فلانا من الأشخاص عنده رأي راجح وعنده حكمة، وإذا أطلعه على المشكلة التي أنا واقع فيها، من الممكن أن يجد لي حلا. هذا يصبح حكمه حكم الطبيب. لاحظ أنه إذا إنسان – أبعد الله عنك المرض – مرض بمرض ما، حتى لو في مناطق العورة المحرمة؛ فإنه يكشف تلك المناطق للطبيب لكي يتعالج عن ذلك المرض. كذلك الأمر بالنسبة لك عندما تنتظر منه – أي ذلك الرشيد الحكيم - توجيها أخلاقيا، مساعدة نفسية، رأيا راجحا، فيكون حكمه كحكم ذاك، كحكم الطبيب.
فأنت أيضا تطرح عليه من أمرك بمقدار معين. كما تكشف للطبيب - من أجل العلاج - مقدارا معينا من بدنك. فلا تكشف ما لا يحتاج إلى كشف. افترض، امرأة مريضة في الصدر، فيجوز لها أن تكشف للطبيبة - بل حتى للطبيب إذا كان لا يوجد المماثل أو كان الطبيب الرجل أكثر حذقا واطمئنانا – مكان المرض. لكن بمقدار ما يلزم أن يُكشف، لا أن تكشف له كلها، من أعلى إلى أسفل.
أيضا، هذا الإنسان يعاني من مشكلة معينة - لنفترض مشكلة في العمل - ويحتمل أن فلانا من أصحاب الحكمة والرأي الحسن، يمكن أن يساعده. فإما يصبره – مثلا - ويرفع من نفسيته، أو يقترح عليه اقتراحا عمليا، ويساعده عموما بنحو من الأنحاء، فله أن ينفتح عليه بمقدار. لا أن ويقول: ليس مشكلتي مع العمل فقط، بل حتى مع هذه المرأة التي في بيتي، أغمتني، وأمري معها كذا وكذا، وأبي أيضا، كذا وكذا، فيدخلك بكشفه نشرة أخباره كلها. "وَلَا تَبْذُلْ لَهُ الطُّمَأْنِينَةَ"، هذا أمر ثان.
أمر ثالث أيضا يتحدث عنه الإمام (ع)، "وَأَعْطِهِ كُلَّ الْمُوَاسَاةِ". باعتبار أن الصداقة والعلاقة لا بد لها من مضمون. هذا المضمون قد يكون: فائدة دنيوية، فائدة أخروية، مساعدة في جانب ما، تخفيفا من مشكلة، وأمثال ذلك. فهذا الصديق يتوقع منك – وعليك أن تستوعب هذا - إما الآن أو في المستقبل، أن تمد له يد المعونة. في الحديث، "وَإِذَا احْتِجْتَ مَعُونَةً فَاصْحَبْ مَنْ إِذَا صَحِبْتَهُ زَانَكَ وَإِذَا احْتِجْتَ إِلَى مَعُونَةٍ أَعَانَكَ". بمقدار استطاعته، بمقدار تمكنه، حاول أن يفتح لك باب من الأبواب، يعينك في قضية من القضايا.
نعم، لا ينبغي أن يتوقع منك، ولا أنت أن تتوقع منه، أكثر مما أنتما قادران عليه. كأن تقول: "أنا صديقه وتالي أروح إله حتى مهر كامل ما عطاني". هنا، يكون بقي فقط أن تقول: "حتى بيت ما أثث إلي، ولا سيارة، ما اشترى إلي". هذا توقع في غير محله. لكن بمقدار المواساة، وما يتمكن ولا يُحرج فيه، يُتَوقع منه أن يفعل فعلا لصاحبه. الصاحب يتوقع، والآخر يستقبل هذا التوقع: "وَأَعْطِهِ"، كما يقول الإمام (ع)، "كُلَّ الْمُوَاسَاةِ"، والمواساة درجات.
ونحن في أيام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، أوضح أنحاء المواساة: مبيت أمير المؤمنين (ع) على فراش رسول الله (ص). عندنا في الروايات، أن الإمام أمير المؤمنين (ع) عندما طلب منه رسول الله (ص) أن يبيت في مكان إقامته، قال: أو تسلم بذلك يا رسول الله؟ قال: بلى. قال: إذن لا أبالي - شيء بهذا المعنى-، وبات على فراش رسول الله.
وفي موضع آخر، في قضية أحد، الذي شهد له النبي في ذلك عندما انهزم الجيش، وكان أمير المؤمنين مصلتا سيفه أمام نبي الله، لا يأتيه أحد إلا رده. فقال جبريل – كما في الخبر: "إِنَّ هَذِهِ لَهِيَ الْمُوَاسَاةُ". هذا العمل الذي قام به علي بن أبي طالب (ع) هو المواساة الحقيقية. فقال النبي، كما في الرواية: "إِنُّهُ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ". فهذه ليست علاقة عادية، صداقة بسيطة، وإنما هناك شيء أعظم من هذا. هو مني وأنا منه.
آخر ما يمكن أن يقال هنا، قضية العتاب، ونشير إليها سريعا. هل من المناسب في الصداقة أن يتعاتبا؟ لم يأتني الوقت الكذائي، طلبت منه أمرا من الأمور ولم يفعله، اعتقدت أنه قصر في حقي: هل من المناسب أن أعاتبه أم لا؟
الروايات عندنا عن العتاب على قسمين، قسم: تؤيد العتاب، مثل: "العِتَابُ حَيَاةُ الْمَوَدَّةِ"، وفي حديث آخر، عن الإمام أمير المؤمنين أيضا: "عَاتِبْ الْعَاقِلَ يُحْبِبْكَ". فإذن العتاب محمود بناء على هذه الروايات. في المقابل، عندنا روايات تمنع العتاب، ولا سيما الإكثار منه. كما في الحديث: "احْتَمِلْ أَخَاكَ عَلَى مَا فِيهِ وَلَا تُكْثِرْ الْعِتَابَ فَإِنُّهُ يُورِثُ الضَغِينَةَ". يتحول إلى حقد ومشكلة بين الطرفين. "الْإِفْرَاطُ فِي الْمَلَامَةِ يَشُبُّ نَارَ اللَّجَاجَةِ". تعاتبه أنت، فيقوم هو بالرد عليك. تقول له: الأمر هكذا، أنت مشتبه في الموضوع الفلاني. فذاك الوقت، هذا العتاب سبَّب لجاجة، وأساء إلى العلاقة أكثر.
وهذا من أوضح ما نراه بين الأزواج. يبدأ هو في العتاب، فترد عليه. هو يقول لها: أنت كذا، فتقول له: لا، لست كذا، أنت الذي هكذا. فيبدأ اللجاج بينهما والأخذ والرد. فيتبين أن العتاب هنا ما كان جيدا.
"وَإِيَّاكَ أَنْ تُكَرِّرَ الْعَتَبَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُغْرِي بِالذَّنْبِ وَيُهَوِّنُ الْعَتَبَ". أي إذا صرت كثير المعاتبة، كما في الشعر: "إذا صرت في كل الأمور معاتبا"، "صديقك لم تلق الذي لا تعاتب". أساسا، لما يصبح منهجك أن تعاتب دائما وكثيرا، لا يعود لعتبك أثر. سيغلق الذي تعاتبه – مذ تشرع بعتبك - أذنه وأذن قلبه عن سماعك. فلا يجدي مهما عاتبت.
حسنا، هل العتاب محمود أم مذموم؟ روايات تقول هكذا، وروايات تقول بالنحو الآخر. وهناك - باختصار - عدة طرق للجمع. أحد تلك الطرق، أن نقول: أن المذموم هو كثرة العتاب، إياك أن تكثر العتاب. لكن أصل العتاب والخفيف منه، لا بأس به. المذموم أن تكثر منه. لا تجعل من العتاب شغلك الشاغل. دع لنفسك مجالا. فبعض الأمور تستحق عتابا، وبعضها – وهي الأكثر – تستحق تغافلا. فثلث العقل التغافل. أنت تدري، وتعلم الأسباب، وتعرف النتائج، لكن مع ذلك تتغافل وتغضي عن ذلك. فإذا هناك عدد كذا من النقاط في الأسبوع، أكثر، أقل، تعاتب فيها، فالكثرة مذمومة. أما أصل العتاب فلا مانع منه. هذا واحد.
الجمع الثاني: أن المذموم من العتاب هو ما كان لتحقيق الانتصار على الطرف المقابل. وهذا الذي يحصل غالبا. أنت تريد أن تسجل على الآخر هدفا، "أنت ليش تسوي هالشكل؟"، "والله ما كان عندي وقت"، "لا، كان عندك وقت"، وأنا سمعت أنك رحت فلان مكان". سجلنا هدفا عليه. هذه الطريقة سيئة في العتاب. أن تجعل جهدك في سبيل أن تكسر الطرف المقابل، أن تسجل أهدافا عليه، أن تشعره باستمرار أنه مغلوب. "ما سويت الأكل زين!"، "لا والله اليوم أني تعبانة"، "لا مو تعبانة وش متعبنش! من الصباح إلى الآن نايمة، من بعد صلاة الفجر إلى الآن نايمة. وش عندش؟".
أنت هنا تريد أن تسجل هدفا على الآخر، أن تكسره، وأن تشعر بزهو الانتصار، وذلة الطرف المقابل وإحساسه بالخذلان. هذا العتاب يثير اللجاجة، يشب الملامة، يعقد المشكلة، فلا ينبغي أن يكثر منه الإنسان.
والثالث: أن العتاب المذموم هو ما كان قبل سماع العذر، وما جاء بصورة اللوم قبل السؤال عن الأسباب. أنت ملاحظ أن قسما من الناس أول ما يرى فلانا، يستلمه. لماذا هكذا؟! انتظر، "لعل له عذرا وأنت تلوم". اسأله، هذا الأمر لماذا حدث بهذا النحو؟ ثم أنظر، هذا العذر الذي يقدمه لك، لو كنت مكانه حقا وفعلا، هل  كنت ستسلك نفس السلوك أم لا. افحص أعذاره بالنسبة إليه وبالنسبة إلى الموضوع، هل هي معقولة أم لا. إذا لم تكن كذلك، من حقك أن تعاتبه. على أن الأفضل أن تتغافل عنه وتتغاضى.
أما أكثر ما يحدث ونلاحظه، أول ما يقدم الطرف الأزل، يستلمه الطرف المقابل معاتبا، "ما إجى إلى البيت"، فاستلم مذ وصل أخيرا: "أنت كذا، وفاعل، وتارك، وعامل، ورايح، وجاي". انتظر عليه، أمهله، أعطه مجالا أن يوضح لك عذره، ثم عاتب في موضع العتاب.
الله سبحانه وتعالى - وهو العالم بالسرائر - يسأل في يوم القيامة العباد! هو يعلم لماذا هؤلاء في نار جهنم. مع ذلك يتوجه إليهم ويسألهم: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)، لما عملتَ ما عملت؟ في الحديث عندنا: يؤتى بالعبد يوم القيامة لم يعمل. فيقال: لما لم تعمل؟ يقول: لم أكن أعلم. (لم أحسن سماع التتمة). الله سبحانه وتعالى يعلم بجوابه قبل أن يتكلم. لكن مع ذلك يسأله؛ حتى يقول له بالتالي هذا عذرك لا مقبول عندي ولا ينبغي أن يكون مقبولا عندك. فالعتاب – إذا يراد عتاب – ينبغي أن يكون بعد إبداء الشخص لعذره.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن رزقنا مكارم الأخلاق وأن يعيننا على بذل المودة لأصحابنا وأهلنا، إنه على كل شيء قدير، وصل الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

مرات العرض: 3400
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2568) حجم الملف: 37480.69 KB
تشغيل:

يا أبناء العشرين ويا أبناء الثلاثين !
عفة اللسان وبذاءته 2