مسيرة الامام الحسين من المدينة إلى مكة
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 3/1/1437 هـ
تعريف:

 مسيرة الإمام الحسين  عليه السلام من المدينة إلى مكة


كتابة الأخت الفاضلة أمجاد عبد العال

 تمثل الإمام الحسين (ع)، عندما كان في طريق الخروج، موقف نبي الله موسى فتلى هذه الآية المباركة، (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) .
تعلمون أن التمثل بشيء يقتضي شيئا من المشابهة بين الموفقين. وإلا كان خلاف الحكمة. مثلا، لو كان في أثناء خروجه، يقرأ آية من آيات عذاب النار، لكان محل غرابة. إذ ما هي المشابهة والمشاكلة بين هذه الحركة وبين آية من آيات العذاب أو النار أو ما شابه؟! فلا بد أن يكون - بمقتضى الحكمة - هناك شيء من المشابهة بين الموقفين.
يظهر أن هناك تشابها في أصل هذه الرحلة، وفي كيفيتها، وفي أطرافها. في الأطراف، هناك طرف ظالم، جائر. وهناك طرف مؤمن، رسالي، موحد. هذا الأمر موجود في الجهتين. في زمان موسى، كان فرعون يمثل السلطة الظالمة الجاحدة، وموسى يمثل القيادة الإلهية. في زمان الإمام الحسين (ع)، كان الإمام يمثل القيادة الإلهية الربانية، ويزيد بن معاوية يمثل القيادة الظالمة والرئاسة الجائرة، هذا بخصوص التشابه في أطراف القضية. في أصل الحركة، أنها لم تكن نزهة، لم تكن لغرض تجاري، أو مادي، أو ترويحي عن النفس. وإنما كانت ضمن حركة تحرير هذا الشعب، والنهوض في وجه الظالم بأمر الله عز وجل.
وهذا الأمر في زمان موسى كان حاصلا. فلم يكن قد خرج للتنزه. وإنما خرج ضمن مسيرة تحرير بني إسرائيل، ودعوته إلى الله. وهنا أيضا، كرر الحسين نفس الدور، فلم يكن خارجا في نزهة من المدينة، وإنما قال: "إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلَاحِ".

هل كان الامام الحسين خائفا
أيضا، الآية المباركة تثبت كيفية معينة وحالة مشتركة، وهي: الخوف والترقب: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ)، ويفترض أن هاتين الحالتين موجودتان في الموضعين. ولهذا يثار سؤال هنا: هل كان الحسين خائفا؟ وكيف يمكن أن يتفق هذا مع ما نعرفه من شجاعة الحسين وقوة قلبه؟ وهكذا الحال بالنسبة إلى نبي الله موسى.
هناك أكثر من إجابة على هذا الموضوع. أشير إلى بعضها سريعا؛ حتى لا يطول بنا المقام. إحدى الإجابات: إن الخوف هو أحد الغرائز الموجودة في النفس البشرية الطبيعية. فأية نفس بشرية، سواء كانت نفس نبي، أو وصي، أو إنسان عادي، تحتوي هذه النفس على مجموعة من الغرائز، فعندها: غريزة فرح، وغضب، وحزن، وخوف، ورجاء، وما شابه ذلك. وهذه الطبيعة الإنسانية في كل أحد. ووجود هذه الصفات حالة طبيعية، وليست مذمومة. فما هو المذموم من هذه الصفات؟ من هذه الغرائز؟ المذموم: هو ترتيب الأثر الخاطئ على هذه الغرائز.
فأن يكون عند الإنسان غريزة فرح، فهذا لا مشكلة فيه، المشكلة أين؟ عندما يخرجه هذا الشعور من الحالة الاعتيادية إلى حالة البطر، فيفقد السيطرة على نفسه. هذا المذموم. الحزن أيضا، شعور غريزي داخلي طبيعي في كل إنسان، وليس مذموما. متى يصبح مذموما؟ عندما يتحول إلى جزع، ويخالف التوكل على الله، ويخالف الرضا بقضاء الله، ذلك الوقت يصبح الحزن ليس زينا: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا). فيُنهى عن الحزن هنا، لماذا؟ لأن به يخرج الإنسان من الحالة الاعتيادية إلى حالة مخالفة أمر الله في التصبر. وهكذا بالنسبة إلى الخوف.
الخوف كذلك، غريزة طبيعية في داخل الإنسان. فالإنسان ليس جمادا، ليس إسمنتا، ليس خشبا، له مشاعر. من هذه المشاعر: شعور الخوف. فمتى يكون هذا مذموما؟ عندما يؤثر الخوف على الإنسان، فيمنعه أن يقوم بواجبه، كأن يُدعى إلى الجهاد، فيقول: أنا خائف. يُدعى إلى كلمة الحق، فيمنعه الخوف. هنا يصبح هذا الخوف ماذا؟ مذموما. أما إذا لم يمنعه الخوف من ذلك، فهذا لا بأس فيه. والحزن أيضا لا بأس فيه. فالإمام زين العابدين (ع) كان حزينا، ويعقوب كان حزينا، (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ). أنا حزين، ولكن حزني هذا لا يخرجني عن سبيل الإيمان، وإنما يقربني إلى الله عز وجل.
إذن، أحد هذه الأجوبة: أن قضية نبي الله موسى بن عمران، عندما خرج من تلك البلدة إلى تلقاء مدين، وكان خائفا مترقبا، فخوفه ذاك ليس مذموما؛ لأنه لم يترتب عليه موقف عملي مخالف للرسالة، أو مخالف للشجاعة، أو مخالف للموقف المطلوب. هذا جواب.
جواب آخر: أنه أساسا كان لهذا الخوف جهة رسالية، (خَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا)، لكن على ماذا هو خائف؟ تفسر هذا آية أخرى: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ). فهناك فرق بين: فأوجس على نفسه خيفة، وبين (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً)، أي صار في داخل نفسه خوف، ولكن هذا الخوف على ماذا؟ على أموال أن يخسرها، فهذا نوع من الخوف. أن يُبتر عمره، هذا نوع آخر من الخوف. أولاده، نوع ثالث. لا. كان خائفا على رسالته، على دينه الذي جاء به، على دعوته. عنده اهتمام في هذا الأمر، وهذا الخوف يثاب عليه الإنسان. فليس هو ممن يقول: إن صار، صار. إن لا، فبجهنم حسب التعبير. لا. هو يخاف على هذه الديانة، يخاف على هذه الدعوة، يخاف على هذه الرسالة. يقلق عليها.
النبي محمد، لذكره صلوا عليه، اللهم صل على محمد وآل محمد، يخاطبه القرآن الكريم، يقول له: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)، قلق، متأسف، متأذ، تكاد تنتهي حياتك! لكن على ماذا؟ إنما على هدايتهم. من شدة اهتمامه بهدايتهم، ورسالته. وهذا خوف مقدر، قلق ممدوح.
وهذا يفسره مولانا أمير المؤمنين (ع) في الخطبة رقم 4 من نهج البلاغة، ارجعوا إليها، يقول: "لَمْ يُوجِسْ مُوسَى خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ"، أي ما خاف على نفسه، "وَإِنَّمَا خَافَ مِنْ دُوَلِ الضَّلَالِ، وَمِنْ غَلَبَةِ الجُهَّالِ"، أي خاف أن تصبح السيطرة للجهلة، للحمقى، للمتخلفين. خاف أن يصبح الانتصار من نصيب أهل الضلال. وهذا الأمر مقدر. فإذن، خوف موسى هو ضمن هذا الإطار. وهذا التخوف مقدر، محترم، مكرم.
سيدنا ومولانا الحسين (ع)، أيضا عنده هذا التخوف. لكن تخوف على ماذا؟ يقول: "وَعَلَى الإِسْلَامِ السَّلَامُ إِذَا بُلِيَتْ الأُمَّةُ بِرَاعٍ مِثْلَ يَزِيدِ". فأنا أخاف من انهيار الدين. إذن تمثل الإمام الحسين (ع) بالآية المباركة، في أثناء خروجه، فيه أوجه متعددة من المشابهة والمشاكلة: أصل الحركة، أطراف هذه الحركة والهجرة: ظالمون من جهة، ورساليون من جهة. أصل الحركة: رسالية، دينية، دعوة إلى الله عز وجل. وأيضا كان هناك حالة من القلق والتخوف على رسالة الله ومصير عباد الله. فالإمام الحسين (ع) خرج. فما الداعي؟ أي ما الذي يدعو الإمام الحسين (ع) إلى مثل هذا الخروج؟ ما هي دواعي وبواعث نهضته تلك؟
هناك بحث مطول لمن أراد التفصيل فيه، بحثه المرحوم الحجة الشيخ: باقر القرشي، في كتابه: حياة الإمام الحسين (ع). عنده كتاب من ثلاثة أجزاء، بحث فيه أغراض وبواعث حركة الإمام الحسين (ع). وكتاب آخر، أكثر تفصيلا، مجلد كامل للمحقق: الشيخ الكرباسي، صاحب دائرة المعارف الحسينية، بعنوان: العامل السياسي في نهضة الإمام الحسين (ع). لو أحد يريد تفصيلا فليرجع إليه، فنحن نشير فقط إشارة سريعة.
من البواعث في خروج الإمام الحسين (ع) التخوف من انهيار الإسلام والنموذج الإسلامي عند المسلمين جميعا. كيف؟ جاء نبينا المصطفى محمد (ص) وقدم صورة للناس عن الدين والإسلام ناصعة، شديدة البياض. فلما وصلنا إلى ما بعد رسول الله (ص)، اعترى هذه الصورة بعض التشويش، اختلف باختلاف مراحله الزمنية. ولما وصلنا إلى زمان معاوية، عبر الإمام أمير المؤمنين (ع) عن تلك المرحلة، بأنه: "لُبِسَ فِيهَا الِإسْلَامُ لِبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوبًا"، الفروة لما تلبس بشكل مقلوب، فأولا: تصبح قبيحة المنظر، وثانيا: غير ذات أداء وكفاءة. إذ أن المفروض من الفروة أن تحمي من البرد. فإذا عكستها، لا تعطيك نفس النتيجة. وفوق ذلك، هي قبيحة المنظر. وهذا تشبيه بديع جدا قام به أمير المؤمنين (ع).
يعني الإسلام، في ذلك الزمان، لا جاذبية فيه للناظر، ولا فاعلية فيه لمن يمارسه. لا فائدة فيه ولا جاذبية. فأنت تشتري الشيء، لماذا؟ سيارة مثلا، إما لأنها عملية وتقضي بها حاجتك، وإما لأنها جميلة وحديثة، أو للاثنين معا. أما سيارة لا تتحرك، ولا تعملل وأيضا قبيحة المنظر وقديمة! هكذا صار الإسلام.
والإمام الحسين (ع)، أمام هذا، كان لا بد أن يقول للناس: أن هذا الإسلام الموجود في زمان معاوية وصل إلى هذا الشكل، وفي زمان يزيد سيدفن نهائيا. ليس من شيء، "وَعَلَى الإِسْلَامِ السَّلَام"، اقرؤوا عليه الفاتحة، انتهى. فتحرك الإمام الحسين (ع)؛ لمقاومة هذا.
دعني أقول لك حكاية: مع حركة الإمام الحسين (ع)، ومع جرائم يزيد، ومع أفعاله، مع ذلك كله، وجدنا بعض مشايخ المسلمين، يقولون في هذه الأزمنة: أن بيعة يزيد بيعة شرعية، وهو أحد أئمة المسلمين. فبعض الناس إلى الآن يعتقدون به، ويتدينون - بينهم وبين الله - أن يزيد واحد من أئمة المسلمين وخلفائهم، وبيعته بيعة شرعية لازمة الاتباع والطاعة! هذا مع ثورة الإمام الحسين (ع)! فكيف بهم لو أن الإمام الحسين (ع) ما ثار وما تحرك! ذلك الوقت تصبح النسخة الوحيدة، الفضلى، والمثلى، للإسلام، هي الصورة التي جاء بها يزيد بن معاوية!
رحم الله السيد جعفر الحلي، يقول في قصيدته الكفاية المعروفة:
وقد تحكم بالإسلام طاغية        يمسي ويصبح بالفحشاء منهمكا
لئن جرت لفظة التوحيد من فمه فسيفه بسوى الإسلام ما فتكا
لم أدر أين رجال المسلمين مضوا  وكيف صار يزيد فيهم ملكا
العاصر الخمر من لؤم بعنصره ومن خساسة طبع يعصر الودكا
هناك:
فما رأى السبط للدين الحنيف شفا إلا إذا دمه في كربلا سفكا
فأول دافع حرَّك الحسين (ع) هو لكيلا ينهار الإسلام ولكيلا يدفن. كأن الإسلام قد وصل – إلى ما قبل زمان يزيد - إلى لبس الفرو مقلوبا، لا جاذبية فيه، ولا فائدة منه. أما في زمان يزيد، فقد كان المقرر أن يدفن الإسلام، فإكرام الميت دفنه، غير أن الإمام الحسين (ع) تحرك؛ لإعادة هذا الأمر، ولإنقاذ الدين، ولإعادة الصورة التي جاء بها رسول الله (ص). وهذا أول غرض من الأغراض التي دفعته للحركة.
الغرض الآخر: المسؤولية الاجتماعية التي يفرضها الدين. فنحن نعلم أن الدين الإسلامي فيه واجبات، بعضها ذات منحى فردي، وبعضها ذات منحى عبادي. الصلاة غالبا ذات منحى عبادي فردي، ولكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجب اجتماعي. الصوم عبادة فردية، ولكن الجهاد عبادة اجتماعية. شرب الخمر محرم فردي، لكن مقاومة الظلم ومواجهة الظالم، أمر اجتماعي لازم على الإنسان المؤمن. هذه كلها، مثلما أن الإنسان يؤمن بالصلاة والصيام والحج، وهي من الواجبات ذات المنحى الفردي، فالمطلوب منه أيضا، أن يؤمن بالواجبات التي هي ذات منحى اجتماعي، وإلا يصبح مثالا للآية: (فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ).
فأحد يقول: أنا يعجبني من الإسلام الصلاة، أما قضية الأمر المعروف، فلا.  يعجبني من الإسلام الدعاء ولكن قضية مقاومة الظالم ومحاربة الفساد، فلا. ليس كذلك الأمر. وبالتالي الإمام الحسين (ع) هو أولى من غيره في تطبيق هذه المسؤولية الاجتماعية. وهذا ما أشار إليه في تتمة الحديث عن رسول الله محمد (ص). عندما قال: "سَمِعْتُ جَدِّي رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: مَنْ رَأَى مِنْكُم سُلْطَانًا جَائِرًا مُسْتَحِلًّا لِحَرَامِ اللهِ مُحَرِّمًا لِحَلَالِ اللهِ عَامِلًا فِي عِبَادِهِ بِالإِثْمِ وَالعُدْوَان، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيهِ بِفِعْلٍ وَلَا بِقَوْلٍ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ، أَلَا وَإِنِّي أَحَقُّ مَنْ غَيَّر". أنا أولى الناس. وهذان الأمران، من جملة أمور أخر، لا نتعرض إليها الآن، دفعت الإمام الحسين (ع) باتجاه هذه الحركة، برفض البيعة الأموية، والتحرك بالاتجاه المخالف.
كان أول تحرك اتخذه الإمام الحسين (ع) بعد رفض البيعة الأموية، أن يخرج من المدينة. فخروجه من المدين، كان بمنطق الحوادث هو القرار الأصوب والأسلم، لماذا؟ لأن المدينة المنورة، في بحوث العلماء، يقولون: أنها كانت - من الناحية الاستراتيجية - مقبرة الثورات. فليس هناك من ثورة حدثت في المدينة المنورة، إلا وخمدت في مكانها: ثورة عبد الله بن حنظلة، غسيل الملائكة، التي حدثت بعد حركة الإمام الحسين (ع)، وقضي عليها قضاء مبرما، ولم يتفاعل معها أحد من أطراف المدينة، فضلا عن سائر بلاد المسلمين.
حتى في زمان العباسيين: ثورة محمد، النفس الزكية، التي كانت - في حدود معينة - محل إجماع من غير أتباع أهل البيت (ع)، وبعض أتباع أهل البيت (ع)، مع ذلك خمدت حركته وصفيت تصفية كاملة. حركة شهيد فخ، الحسين بن علي، من أحفاد الإمام الحسن، في وقت متأخر، من أيام العباسيين، نفس الكلام. لماذا؟ لأن المدينة بلدة صغيرة، محصورة، ليس وراءها مدد، وليس فيها فئات كثيرة من الناحية البشرية، ولا عوامل انتصار كثيرة. ولذلك لم ير الإمام الحسين (ع) أن يبقى في المدينة، وإنما قرر الخروج.

مواقف المسلمين تجاه الثورة الحسينية :

أمام هذا القرار، كانت هناك ثلاث فئات. الفئة الأولى: كانت معارضة لخروج الإمام الحسين (ع)، وداعية للإمام لكي يبايع يزيد. الفئة الثانية: كانت توافق موقف الإمام الحسين (ع) في رفض البيعة، وتتخوف عليه، وعلى حياته. وهذه فئة ثانية. فئة ثالثة: لم تكن ترى أن الأمر يعنيها.
الفئة الأولى، أشير إليها سريعا، فمن أوضح ممثليها كان مروان بن الحكم. فمروان أتى إلى الحسين، وقال له: يا أبا عبد الله، إني أنصحك بأن تبايع يزيد بن معاوية، فإنه خير لك في دنياك وأخراك. تريد الآخرة، بايع يزيد، تريد الدنيا أيضا، فبايع يزيد. نعوذ بالله من عمى البصيرة.
الإمام الحسين (ع) يقول: "وَيَزِيدٌ رَجُلٌ فَاسِقٌ فَاجِرٌ مُعْلِنٌ بِالفُجُورِ، قَاتِلُ النَّفْسِ المُحْتَرَمَةِ". وفي موقع آخر، يقول لمعاوية: "لَعَلَّكَ تَصِفُ غَائِبًا أَوْ تَنْعَتُ مُحْجُوبًا"! أأنت تتكلم عن يزيد، ألسنا لا نعرفه! فدعه بينه وبين ما اختاره لنفسه من اللعب بالقرود، والفهود، والحمام السبق لأترابهن. فهذا رجل لعب ولهو وكذا، وليس رجل خلافة وقيادة. لكن ذاك يقول له: فإن هذا خير لك في دنياك وأخراك! هذا واحد.
نموذج آخر، قد يفاجئك، عمر الأطرف بن علي بن أبي طالب. ابن الصهباء التغلبية، أخو الإمام الحسين (ع)، وأصغر منه. الإمام الحسين (ع)، كان عمره في ذلك الوقت 55 تقريبا. وهذا كان أصغر منه، ربما بـ 15 سنة أو أكثر. إذ أتى إلى الحسين (ع) لما صارت قضية في المدينة، قبل خروجه، فنصح الحسين في زعمه بأن يبايع يزيد؛ حتى يحافظ على حياته. فواجهه الإمام الحسين (ع) بشكل قوي، بما معناه: أأنت الذي أقل مني عمرا وعلما وفهما، تأتيني لتحدد لي مساري! قال: "ظَنَنْتَ أَنَّكَ تَعْلَمُ مَا لَا أَعْلَمُ"، أتتصور أنك تحيط بشيء، أنا لا أدري عنه؟! ليس الأمر كذلك. "وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِي فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مَأْوَى مَا بَايَعْتُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَة". فلست أبحث عن حياة، أنا أبحث عن مبادئ، وعن نصرة الدين. وهذا هو نفسه، أي هذا الرجل، يحتاج إلى دراسة خاصة. وهذا يشير إلى أننا - نحن أتباع أهل البيت (ع) -  لا نعتقد - كما يقول بعض غير الواعين - بقضية الوراثة، أنه ما دام ابن علي بن أبي طالب، أو ابن الحسين، أو ابن زين العابدين، أو ابن فلان، فهو كذا. لا. هي كفاءات، هي اصطفاء، هي مميزات. فهذا الحسين هكذا، وذاك أخوه! ووالده علي بن أبي طالب ليس بهذا الشكل. فالإمام علي يربيه، يتحدث، يتكلم، لكن هذه البذرة بذرة غير صالحة، هذه الأرض لا تستقبل المطر النازل عليها. فرفض الإمام الحسين (ع). وهذان نموذجان، واحد من الخارج، وواحد من داخل الفئة.
القسم الثاني: من كان يوافقه في موقفه، ولكن يتخوف على حياة الإمام. وفي طليعة هؤلاء: محمد بن الحنفية - رضوان الله تعالى عليه - وهذا الرجل من الرجال الأعاظم، من أبناء أمير المؤمنين (ع). فقد أتى إلى الإمام الحسين (ع)، وقال له: "يَا أَخِي أَنْتَ أَعَزُّ النَّاسِ عِنْدِي وَأَعْظَمَهُم فِي نَفْسِي تَنَحَّى بِبَيْعَتِكَ عَنْ مُعَاوِيَةَ". أي موقفك هذا، موقف معقول وواضح، ونحن نتفهمه، "وَلَكِنْ ابْعَثْ بِرُسُلِكَ وَرَسَائِلِكَ إِلَى النَّاسِ"؛ لتجمع الأنصار، "ثُمَّ اذْهَبْ إِلَى مَكَّةَ فَإِنْ طَابَ لَكَ المَقَامُ فِيهَا"، أي وجدت مكة وضعا مناسبا، فهو الذي أردت، "وَإِلَّا لَحِقْتَ بِاليَمَنِ، فَإِنَّ فِيهَا أَنْصَارَ أَبِيكَ وَأَخِيكَ الْحَسَنَ، فَهُمْ أَرَقُّ النَّاسِ قُلُوبًا وَأَوْسَعُ الأَرْضِ بِلَادًا". فمن جهة، عندهم ولاء لوالدك، وبالفعل القبائل اليمنية بعدما أسلمت على يد علي (ع)، كانت كذلك. بالذات قبيلة همدان، في قضية معروفة. فالاتجاه العام للقبائل اليمنية: كندا، خزاعى، وغيرهم، هو هذا. لاحظوا أصحاب الإمام علي (ع)، أواخر ألقابهم غالبا هي قبائل اليمن. وفوق هذا، أرض من الناحية الاستراتيجية - كما يقولون - تخدم الإنسان الثائر.
وهذا كان موقفا، ونصيحة، وإشارة، وتخوفا على الإمام الحسين (ع)، وتفهما لقراره. فقال له الإمام الحسين (ع): "لَا زِلْتَ مُؤَيَّدًا وَمُسَدَّدًا، إِنِّي مَا عَلِمْتُكَ إِلَّا شَفِيقًا"، أي أنت لست إنسانا اعتياديا، ولكن هذا أمر قد عزمتُ عليه، أني أخرج إلى مكة. فالآن، لن أنتظر أن أرسل رسائل ورسل، فالأمر عندي محسوم. "وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَكُونَ لِي عَيْنًا فِي المدِينَةِ". هذا يذكره صاحب كتاب الفتوح بن أعثم الكوفي، من قدامى المؤلفين، حوالي من 300 هجرية، يذكر هذا الموضوع، وهذا أحد العلل والأسباب التي تذكر في عدم خروج محمد بن الحنفية مع الإمام (ع). فهذه فئة ثانية.
الفئة الثالثة، قسم غير قليل من الناس، كانوا لا يرون أنفسهم معنيين بحركة الإمام الحسين (ع). فالبعض يسأل أين أصحاب رسول الله؟ أين التابعون؟ لماذا لا نجد فلانا وفلانا وفلانا في حركة الإمام الحسين (ع)؟ هناك سببان، أذكرهما سريعا. السبب الأول: أن فهم الإمامة لم يكن في ذلك الزمان كما هو عندكم الآن. أنت الآن بحمد الله عندك فهم للإمامة، ولحق الأئمة، عدد الأئمة، صفات الأئمة، واجبات الأئمة عليك. هذا واضح عندك، إلى حد أنك عندما تذكر اسمهم، اسم آل رسول الله، ترفع صوتك بالصلاة عليهم. اللهم صل على محمد وآل محمد.
يعني لست فقط تقبل بكلامهم وتطاوع آرائهم، لا. بل عندك ممارسات. وهذا يصدق عليه: "عَارِفًا بِحَقِّهِ". اللهم ثبتنا على ولايتهم. أنت تعرف حق الأئمة (ع)، وهذا الأمر لم يكن موجودا في ذلك الوقت. تريد مثاله؟ مثاله: الآن، لو أنت خرجت من هذه المنطقة التي تعيش فيها، وذهبت إلى منطقة ثانية، ثم صار حديث عن الإمام الصادق (ع)، هل يعرف الناس إمامته؟ كلا، في غير الدائرة الشيعية، ليسوا كذلك. أو صار حديث عن الإمام العسكري، أصلا قسم من المجتمعات الإسلامية لا يدرون من هو هذا الإمام العسكري وماذا عنده؟! لكنك أنت تفهم إمامته، وتعرف حقه، وتطيعه، وتقتدي به. وذاك الذي - رغم أنه الآن، في هذه الأزمنة، حيث الثقافة انتشرت، والبيان قد وصل إلى كل مكان - مع ذلك هو وقسم كبير من الناس، من المسلمين، لا يعرفون الأئمة (ع)، ولا يعرفون الإمامة! فكيف بهذا في ذلك الزمان. يعرفون الإمام الحسين، هذا ابن رسول الله، ابن فاطمة الزهراء، رجل، جليل القدر، عظيم المنزلة. لكن أكثر من هذا، لا يعرفونه. لا يعرفون حقه عليهم، ومسؤوليتهم تجاهه؛ لذلك لما يخرج ويتحرك لا يرى نفسه معنيا بالقضية. هذا واحد.
الأمر الآخر: أن الإمام الحسين (ع) لم يدعو الناس إلى الخروج معه. في المدينة، لا توجد عندنا إشارات واضحة إلى أن الإمام خطب خطبا مثلا، أو دعا الناس إلى الحركة معه، وإلى الخروج. في مكة، نعم، هذا الأمر موجود. موجود أكثر من خطاب، أكثر من كتاب كتب، ودعا فيه الناس إلى الخروج معه، وإلى نصرته. أما في المدينة فليس عندنا هذا الشيء، فإذن سببان: سبب عقائدي، وسبب يمكن أن تقول عنه: سياسي أو تاريخي.
هذه الفئات الثلاث كانت موجودة في زمان الإمام الحسين (ع). ونظرا لأن المدينة لم تكن البلد المناسب لإعلان الثورة، إذ تخنق الثورة فيها، قرر الإمام الحسين (ع) أن يخرج منها. فمن الممكن فيها أن يُغتال الإمام الحسين (ع) قبل أن يبدأ في حركته ونهضته. والإمام وإن كان غير خائف على نفسه، لكنه حكيم، يريد أن يخطط لعمله. لا يريد أن يقول: ليحدث ما يحدث، قتلوني قتلوني. لا. يريد أن يصل إلى غاية، حتى يصبح لمقتله أثر، ولا يذهب دمه هدرا وضياعا. وكان من المحتمل أن يصنع الأمويون ذلك.
فأولا: توصية مؤكدة من قبل يزيد إلى الوليد بن عتبة أن ادع الناس عامة إلى البيعة، وخص ثلاثة نفر أو أربعة نفر، منهم: الحسين بن علي، وعبد اللاه بن الزبير، وعبد الله بن عمر. وفي رواية: عبد الرحمن بن بكر. وهناك خلاف: هل هو كان لا يزال موجودا أم اغتيل في زمان معاوية؟
وقال: إذا واحد من هؤلاء تردد، فلا تناقشه، واقطع عنقه. أوامر مشددة، قام بها أيضا فيما يرتبط بتعيين عمر بن سعيد بن الأشدق، فيما بعد. إذ عزل الوليد الذي كان هادئا نسبيا، وجعل محله هذا الرجل الشرس في نفس الفترة، وقال له: حاول اغتيال الحسين بن علي، حتى لو كان في مكة، حتى لو كان بجوار الكعبة.
لذلك الأمر: أنه كان هناك احتمال بأن يذهب دم الحسين ضياعا، ولا ينتج نتيجة، لو كان باقيا في المدينة المنورة. لذلك عزم على أن يخرج من المدينة، وأفضل مكان أمامه هو مكة المكرمة. باعتبار أننا مقبلون في تلك الفترة على موسم الحج، والناس يأتون من كل مكان، إلى الكعبة المشرفة، فهناك مجال لإخبارهم والحديث معهم والدعوة إياهم وإخبارهم بحركة الإمام الحسين (ع)، وهذا الذي حصل.
فجاء الإمام الحسين (ع) إلى مكة، إذ خرج وسلك الطريق الأعظم، الذي يسمونه بهذا، أي ليس متخفيا. ومن هذا يتبين، ما معنى: (خَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا). فعبد الله بن الزبير، لما استدعاه الوليد حتى يبايع، منتصف الليل، أخفى نفسه وذهب خفية عبر الصحراء إلى مكة. أما الإمام الحسين (ع)، فبعد يومين من المقابلة بينه وبين الوليد، خرج سالكا الطريق الأعظم، الطريق الرئيسي، وعندها الناس، أي لم يكن سريا؛ لأنه خرج مع ظعائنه، وأهل بيته، ومواليه، وقسم من بني هاشم. نعم، كانت تعتبر حركة ليست بطيئة؛ لأنهم قطعوا المسافة، حوالي 400 كيلو، في خمس ليال وأربعة أيام، ومعنى ذلك أنها بحدود 80 كيلو متر في اليوم، وهذا يعتبر سيرا سريعا نسبيا وليس سيرا هادئا.
فالإمام الحسين (ع) بمجرد أن استدعاه الوليد بن عتبة كما تعلمون، عزم على أن يخرج بعد تلك المحاورة بينه وبين الوليد، وبينه وبين مروان بن الحكم. فالإمام الحسين - كما ذكرنا فيما سبق - أراد أن ينهي المقابلة بأهون ما يمكن، فدعاه الوليد إلى البيعة ليزيد، فقال: "مَا أَظُنُّكَ تَقْبَل بِبَيْعَتِي سِرًّا لَكِنْ نُصْبِحُ وَتُصْبِحُونَ وَنَنْظُرُ وَتَنْظُرُونَ أَيُّنَا أَحَقُّ بِالخِلَافَةِ"، فالقضية تحتاج إلى نقاش على ضوء نهار. وليس بقضية سرية، وفي منتصف الليل، وخلسة وسرقة. وننظر: هل نحن لا بد أن نبايعكم، أم أنتم لا بد أن تبايعونا، فهذه فيها كلام، وأراد أن ينهي الموضوع.
الوليد بن عتبة أراد أيضا أن يتخلص من القضية حسب التعبير. لكن مروان بن الحكم، طريد رسول الله، الذي أصبح الآن في مدينة النبي آمرا ناهيا، قال له: "يَا أَمِيرُ أَوْثِقْهُ كِتَافًا"، كتف الحسين، "وَادْعُهُ إِلَى الْبَيْعَةِ وَإِلَّا ضَرَبْتَ عُنُقَهُ، فَإِنْ لَمْ تُرِدْ أَنْ تَفْعَلَ، فَمُرْنِي أَنَا حَتَّى أَضْرِبَ عُنُقَهُ". أنا أقتل الحسين. فالإمام الحسن غضب هنا. والغضب - كما قلنا – كالحزن، كالخوف، كالفرح، حالة وغريزة من الغرائز الطبيعية، لكن أين توجهها أنت؟ إذا توجهها بالشكل الصحيح، غضب لله، غضب على دعاة الشيطان، فنعم، هذا نعم الغضب.
فغضب الإمام الحسين (ع)، وقال: "يَا بْنَ الزَّرْقَاء، أَأَنْتَ تَقْتُلَنِي؟ أَمْ هُوَ؟ كَذَبْتَ وَلَؤُمْتَ"، فلا أنت تقدر، ولا هو يقدر أن يقتلني! ارتفع الصوت، فدخل بنو هاشم مقتحمين ديوان الأمير، يتقدمهم أبو الفضل العباس، ابن أمير المؤمنين (ع)، أبو النخوة والشهامة، الذي لا يتحمل أن يغضب الحسين، أن يؤذيه أحد بمقدار كلمة واحدة.
قلت في بعض الأماكن: من حسن حظ أبي الفضل العباس أنه استشهد قبل الحسين، وإلا إذا كان بهذه النفسية، ويبقى إلى ما بعد الحسين، ويسمع استغاثة الحسين: "يَا قَوْم، وَقَدْ تَفَتَّتْ كَبِدِي مِنَ الظَّمَأِ وَحَقّ جَدِّي أَنَا عَطْشَان"، كيف يصبح حاله ذلك الوقت؟! لا يمكن أن يتحمل - بأبي وأمي - هذا الأمر.
ولذلك اقتحم المكان، وخرج الحسين (ع) في معزة أهله، وفرسانه، مرفوع الرأس. وذهب بعد هذا لكي يودع جده المصطفى (ص). أنا وأنت أيضا، نذهب إلى أماكن؛ لنرتاح فيها، نلقي فيها بأحزاننا، نتوجه إلى الله، ونفرغ أحزاننا بين يدي الله، نذهب إلى قبر رسول الله، وأيضا - إن شاء الله- نستطيع هذا الأمر: أن نذهب إلى قبر رسول الله (ص).
جاء الحسين إلى قبر جده المصطفى، فألقى بنفسه على تراب القبر، يا ليت أنا وأنت تتاح لنا فرصة، ليس لنلقي بأنفسنا على تراب القبر، بل لنقترب من القبر ونناجي رسول الله.
نادي: "يَا جَدُّ يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا الحُسَينُ بْنُ فَاطِمَة، فَرْخُكَ وَبْنُ فَرْخَتِكَ، وَسِبْطُكَ الَّذِي خَلَّفْتَنِي فِي أُمَّتِكَ. فَاشْهَدْ عَلَيهِم يَا رَسُولَ اللهِ أَنَّهُم ضَيَّعُونِي وَلَم يَحْفَظُوْا حَقِّي وَقَرَابَتِي مِنْكَ".

مرات العرض: 3455
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2557) حجم الملف: 42868.82 KB
تشغيل:

أمر أهل البيت والزمن الصعب
التشيع في الهند ..رجال وتاريخ