سيرة الامام السجاد من كربلاء إلى شهادته
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 5/8/1435 هـ
تعريف:

سيرة الإمام علي السجاد عليه السلام من كربلاء إلى شهادته 2

 

كتابة الأخت الفاضلة أم فاطمة

حديثنا بإذن الله تعالى يتناول القسم الثاني من سيرة الإمام علي بن الحسين السجاد صلوات الله وسلامه عليه.

مع شهادة الإمام الحسين، انتقلت الإمامة إلى الإمام زين العابدين سلام الله عليه. وقد أشار غير حديثٍ إلى النص على إمامته وإلى ذكر ذلك من جهة أبيه أبي عبد الله الحسين عليه السلام. بل وفي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري: عندما دخل على فاطمة الزهراء سلام الله عليها ووجد عندها صحيفةً كان فيها أسماء أئمة الهدى سلام الله عليهم. ولم يختلف لا أتباع مدرسة الخلفاء ولا أتباع أهل البيت عليهم السلام في أن الإمام زين العابدين عليه السلام كان سيد عصره ولم يتقدم عليه أحد. فقد نقل كما ذكرنا في وقت مضى عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ عن الله عز وجل أين زين العباد؟ فيقوم ولدي علي بن الحسين يخطر بين الصفوف". وفي هذا الحديث مع شيء من التأمل لا يقول هذا زين العباد في عصره أو في الأمة الإسلامية، وإنما على مستوى المحشر. "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ عن الله عز وجل أين زين العباد؟" المفروض في ذاك الوقت أن الأمم المختلفة محشورة ومنها اليهود والنصارى والصابئة وغيرهم سواء كانوا أصحاب ديانات سماوية أو لم يكونوا. هناكَ يُنادى من هو زين العباد؟ فيقوم الإمام عليه السلام.

طبعاً هنا لابد أن نستثني مثل نبينا المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وذلك لما هو المعلوم بالضرورة من أنه لا أحد في الكون في الخلائق يسبق رسول الله صلى الله عليه وآله في علم ولا عمل. هو منتهى الكمال البشري. فلا أحد يسبق النبي ولا يساويه. هذا من جملة العقائد الثابتة عند المسلمين جميعاً. فلابد من الاستثناء "أين زين العباد" إلا رسول الله صلى الله عليه وآله. ولابد أن يستثنى مثل أمير المؤمنين عليه السلام لما ورد من أن زين العابدين عليه السلام كما ينقل عنه إمامنا الباقر، قال: " كان أبي يقوم ليله، حتى إذا فتر نادى بُني عليَّ بصحيفة عبادة علي بن أبي طالب. فآتيه بها فينظر فيها ملياً ثم يلقيها متأففاً ويقول: "أف من يقدر على عبادة علي بن أبي طالب؟". فهذا ومثل الحسنين عليهما السلام لابد من الاستثناء.

غير هذه النماذج المشرقة، يبقى الإمام زين العابدين عليه السلام في هذه الخصلة في عبادة الله عز وجل في قوة ارتباطه بخالقه هو المقدم. وبالتالي هذا النوع من الشخصيات هم الذين ينتخبون للإمامة من قبل الله عز وجل. أضف إلى ذلك ما ورد عندنا من طرق الإمامية أن الإمام الحسين عليه السلام عندما خرج من المدينة المنورة سنة 60 هـ في بداية رحلته الجهادية التي انتهت بشهادته، ذكر المؤرخون والمحدثون من طرق الإمامية أنه دفع إلى أم سلمة زوجة النبي صلوات الله وسلامه عليه، دفع إلى أم سلمة كتب العلم، وأماناتِ الإمامة وقال لها: "إذا جاءكِ الأكبر من ولدي وطلبها فأعطيها اياه فإنه الأمام من بعدي". طبعاً هذا يبين من جهة منزلة أم سلمة وهي أي أم سلمة كانت حاميةً للولاية ومن نساء النبي القلائل اللاتي روين ما يزيد عن 35 رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وفي ولايته على الناس. ومواقفها مواقف مشرقة. حتى لما حدثت قضية الجمل، أرسلت إلى أمير المؤمنين عليه السلام رسالة مضمونها أنه: "لولا ما أخذ الله على نساء النبي من القرار في البيوت فقال: (وقرن في بيوتكن)، لألفيتني خارجةً معك، لكن أنا موقفي معك، منتمية إليك، أؤيد توجهك وخطك وإمامتك. لكن لا أستطيع الخروج من منزلي في الجيش لأن القرآن الكريم صريح في إلزام نساء النبي بالقرار. (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى). ولكني مرسلةُ إليك بفلذة كبدي ومن هو مني كنفسي ابني عمر". لما تزوجت أم سلمة النبي صلى الله عليه وآله، كان عندها عمر وزينب من زوجها السابق عبد الأسد المخزومي الذي كان زوجها الأول وأنجبت منه هذين وقيل بنت أخرى أيضاً. فأنا مرسلة ابني عمر يكون في ركابك ويقاتل معك ويجاهد بين يديك. وقضايا أم سلمة مفصلة فقد تحدثنا عنها في ضمن الحديث عن الأسرة النبوية، أسرة النبي صلى الله عليه وآله في أحد أشهر رمضان مفصلاً.

الشاهد أن موقعها كان موقعاً متميزاً فأعطاها الإمام الحسين بناءاً على هذه الروايات الواردة من طرق الإمامية كتب العلم وأماناتٍ ترتبط بقضية الإمامة وقال لها "الأكبر من ولدي إذا جاء يطلبها منكِ، فأعطيها إياه". وأخبر الإمام زين العابدين عليه السلام أن لدى أم سلمة أمانات كتب العلم، وقضايا ترتبط بالإمامة، فإذا رجعت إلى المدينة فاطلبها منها. وهكذا حصل مما فيه إشارة إلى توجيه الناس إلى إمامة الإمام زين العابدين سلام الله عليه على غرار تولي الإمام زين العابدين كما هو الرأي المشهور بين الإمامية لـتجهيز الإمام الحسين عليه السلام، فلم يكن هناك تغسيل كما تعلمون نظراً لأن الشهيد في المعركة لا يغسل ولا يكفن وإنما يدفن بملابسه وهذه من كرامة الله للشهيد. كأن الإنسان العادي عندما يأتيه الموت تحصل فيه نجاسة وخباثة ناتجة عن الموت، فالشرع قرر له ثلاثة أغسال لكي يكون طاهراً وهو يتعامل مع رحاب القدس والملائكة. كأن الشهيد لمرتبته العالية لا يحتاج إلى مثل هذا التغسيل والتطهير ولا التكفين وإنما يدفن بملابسه من غير التغسيل معتاد.

فالذي جهز الإمام بمعنى أنه لفه، وجمع أعضائه، وأقبره في قبره، هو الإمام السجاد عليه السلام. وعندنا أنه من العلامات على إمامة الإمام التالي، أن يتولى تجهيز الإمام السابق. العلامة لا يعني عدم حدوثها انتفاء الإمامة، ولكن أنت تريد أحياناً أن تعطي علائم مختلفة لإمامة الشخص فتقول مثلاً: من تكون له وصيته هذه علامة من العلامات. قسم من الناس يطلع عليها. قسم آخر يوصلهم خبر أنه من يجهز أباه الإمام السابق هذا هو الإمام. ولذلك لا يرد مثلاً إشكال إذا كان كذلك فمن ذا الذي يغسل الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف حيث أنه هو خاتمة الأئمة وآخر الأوصياء الهداة. في هذه الحالة نحن لا نحتاج لأن هذه علامة ليست للإمام السابق وإنما علامة للإمام اللاحق. وليست شرطاً. فهناك فرق بين أن تكون هذه علامة من العلائم وبين أن تكون شرطاً من الشروط. فهي ليست شرطاً وإنما هي علامة. فقد يفهم أشخاص هذه العلامة ويفهم أشخاص آخرون علامةً أخرى، ويفهم أشخاص من نوع ثالث علامة أخرى. وبذلك تتعدد العلامات الدالة على إمامة الشخص. فهذه أيضاً تضاف بناءاً على ما هو المعروف عند الإمامية والرأي المشهور من أن الإمام السجاد عليه السلام هو الذي تولى تجهيز أبيه سلام الله عليه.

في قضية كربلاء، مارس الإمام السجاد فيها الدور الذي تسمعونه من خطاباته، من مواجهته، من حفاظه على الأسرة، من بقاءه في هذه الجولة من يوم الحادي عشر إلى يوم العشرين من صفر إلى كربلاء ثم مكثوا مدة فيها ورجعوا إلى المدينة. بعضٌ قال بعد ثلاثة أيام وبعضهم زاد على ذلك. فوصلوا في رأيٍ مع بدايات ربيع. في المدينة المنورة بدأ الإمام عليه السلام بممارسة دوره الطبيعي في الإمامة.

وكان أول شيء عنده كما ذُكِر ويُذكر إبقاء قضية الإمام الحسين عليه السلام ساخنةً بالرغم من أن الإمام السجاد كما ورد في بعض الروايات اعتزل الناس لبرهة من الزمان وذلك لكي يذهب إلى زيارة أبيه الحسين وجده أمير المؤمنين. ولدينا رواية في كتاب فرحة الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين علي للسيد عبد الكريم ابن طاووس وهو من أساتذة العلامة الحلي وله منزلة عظيمة بين فقهائنا. لديه كتاب اسمه فرحة الغري، غرضه تعيين قبر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام. فمن جملة ما يذكر، يذكر زيارات المعصومين وأصحابهم إلى النجف الأشرف وفيها أيضاً زيارات المعصومين بالضمن إلى قبر أبيه الحسين سلام الله عليه، فذكر هناك أن الإمام زين العابدين في رواية عن الإمام الباقر أن علي بن الحسين لما رجع إلى المدينة اتخذ له بيت شعرٍ خارج المدينة ومكث بضع سنين معتزلاً الناس وذلك ليزور الإمام الحسين وجده أمير المؤمنين. طبعاً إذا كان الإمام داخل المدينة، فهو موجود بين الناس باستمرار، فأي غياب له يعرف بسرعة وآنئذٍ من الممكن أن يتتبع. وذاك الوقت كان يراد إخفاء قبر أمير المؤمنين عليه السلام. فلم يكشف القبر للعموم إلا بحدود سنة 140ه بل ما بعدها في زمان هارون العباسي. والإمام عليه السلام في نفس الوقت الذي كان يتحين الفرص أيضاً لم يترك زيارة أبيه وجده وشجع من يحيط به من بني هاشم لكي يذهبوا إلى هذه الزيارة.

وهذا فيه إجابة على سؤال يطرح أحياناً: هل قام المعصومين بزيارة الإمام الحسين عليه السلام؟ هل ذهبوا إليه؟ من الواضح أن لدينا زيارات مقروءة لكن هل ذهبوا؟ الجواب: نعم. أكثر من معصوم يقدر عددهم بـ 4 أو 5 من المعصومين منصوص على ذهابهم لزيارة الإمام الحسين في كربلاء، أولهم كان الإمام زين العابدين سلام الله عليه. في الطرف الآخر أيضاً كان يبقي سخونة قضية الإمام الحسين وبذلك كان يفضح السلطة الأموية وأعمالها وما قامت به متعاضداً في ذلك مع العقيلة زينب عليها السلام التي أمر بإخراجها من المدينة من قبل السلطة الأموية بعد سنة. فبعضهم يقول أن هذا الأمر صدر من عثمان بن حيان وكان والياً على المدينة آنئذٍ. وبعضهم يقول لا، كان الأمر صادراً من عمر بن سعيد الأشدق.

ولي على المدينة خلال 4 سنوات عدد 6 ولاة من قبل بني أمية وهذا يشير إلى مقدار الاضطراب الذي كان لدى هذه السلطة في إدارة المدينة النبوية. أي أن الواحد منهم -حسب التعبير- لا يُكمل 6 أشهر إلا ويعزل. ويدخل في ذلك قضايا فساد ومصالح وتخبط وغير ذلك. لذلك يحدث تردد أحياناً، هل هذا هو الذي اتخذ القرار أو ذاك الآخر؟ المهم، اُخرجت زينب عليها السلام من الدينة بناءاً على رسالة وجهها الوالي الأموي أن زينب امرأة متكلمة لبيبة جزلة بليغة وأنها تثير الناس بذكر مصائب الحسين عليه السلام فإن كان لكم بالمدينة حاجة فأخرجوها منها. وبالفعل أخرجت زينب. وقد كان الوضع في المدينة عندما كان فيها الإمام عليه السلام، وضعاً مضطرباً من جهات متعددة:

أولاً: حالة الإثارة التي خلقتها قضية كربلاء، وتعجب الناس، وتنكرهم لهذا المستوى القبيح من القسوة تجاه آل محمد صلوات الله وسلامه عليه. فلم يكونوا يتصورون أن خليفة المسلمين يستطيع أن يقوم بهذا النحو من الشناعة والبشاعة في الانتقام. وكانت تتموج الأخبار. من جهة أخرى عبد الله ابن الزبير أيضاً كان يحضر نفسه لاقتناص هذه الكعكة حسب التعبير وهو الذي كان يخطط ويفكر قبل خروج الإمام الحسين أنه كيف يستطيع أن يسطر على الأوضاع. حتى اأه لما خرج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة إلى مكة وجاء عبد الله بن الزبير إلى بعض بي هاشم كأنما يعني يريد أن يواسيهم قيل له البيت المعروف أو الشعر المعروف:

يا لك من قُبُّرَةٍ بمعمر

خلا لكِ الجو فبيضي واصفري

ونقري ما شئتِ أن تنقري

يعني أنت غير حزين على خروج الحسين عليه السلام وإنما أنت تنتظر هذه الساعة المباركة – حسب التعبير- حتى تصبح بالتالي الرجل الأول في هذه المنطقة لا أحد ينافسك فيها. فمن جهة عبد الله بن الزبير كان أيضاً يثير جوه في المدينة على بني أمية ويستثمر شهادة الإمام الحسين عليه السلام في الإعلام ضد بني أمية وهذه هي النقطة الثانية.

نقطة ثالثة: أراد الأموين تحسين صورتهم في أذهان أهل المدينة فطلب يزيد من واليه على المدينة أنه أرسل لي أعيان الصحابة وأبناء الصحابة الباقين وأحضرهم للشام لنعطيهم الهدايا ونكرمهم حتى إذا رجعوا للمدينة يثنون على الحكومة الأموية ويؤيدون يزيد. فأرسل الوالي الأموي إليه عدداً من الصحابة ومن أبناء الصحابة. ذهب وفد إلى الشام، أعطاهم أموال. لكن ما رأوه من تهتك يزيد وفسقه قلب عليه المسألة. أي لم ينفعه هذا المقدار من الأموال ولا سيما بالنسبة إلى عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة. فحنظلة غسيل الملائكة هو واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله. وسمي بهذه التسمية لأنه كان قد تزوج ودخل بزوجته ومع الفجر نودي بالجهاد. فلما سمع منادي النبي بالخروج للغزو فجراً، خرج مع الغزاة. وهناك استشهد. كان حنظلة شاباً متحمساً ومؤمناً بقضية النبي وكان يجاهد بإخلاص فاستشهد في المعركة وهناك قال النبي كلاماً معروفاً عنه حيث قال: "رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف من الجنة" فسمي بغسيل الملائكة. أنجب حنظلة ولداً من تلك الليلة التي واقع فيها زوجته هو عبد الله ابن حنظلة الذي ذهب إلى يزيد بعدما كبر وأصبح عمره نحو الخمسين أو بهذا الحدود. فهنا رأى ما رأى فقال: " والله لو لم أجد إلا ولدي لقاتلت يزيد وخلعت بيعته فإني رأيت رجلاً فاجراً متهتكاً يلعب بالفهود والقرود وهو الآن إمام المسلمين وخليفة رسول الله وهذا لا يكون". لو لم أجد أنصاراً إلا ولدي لقاتلته. فأعلن ثورته. ساعدت تلك الأجواء المختلفة أيضاً على أن يلتحق به عدد من الناس الذي كانوا ناقمين على يزيد أنه فعل بالحسين عليه السلام ما فعل. بعض من كانوا متأثرين بتيار وتوجه ابن الزبير أيضاً التحقوا به. تأثر أناس من أنفسهم بعبد الله ابن حنظلة والتحقوا به أيضاً، وأعلنوا نهضة ضد الحكم الأموي.

أما الإمام السجاد عليه السلام في أغلب هذه الفترة لم يكن في وسط المدينة. كان يأتي إلى الداخل ويعود إلى مكانه في طرف المدينة في البادية. وكانوا يقولون أن يزيد أرسل أحد أشرس قادته وهو مسلم ابن عقبه المري وسمي فيما بعد تلك الحادثة بمسرف. وهذا مع كونه كبيراً في السن فقد قالوا إنه ناهز التسعين من العمر وكان يُساعد على القيام. أي أنه لم يكن قادراً على القيام والجلوس، لكنه كان شرساً. فجاء بجيش ضخم للمدينة وحاصرها ثم قاتل هؤلاء الثائرين وقتلهم وأباح المدينة ثلاثة أيام حتى قيل أنه ولد بعد تلك السنة ألف مولود لا يعرف لهم آباء. فأي شخص يرى امرأة في المدينة، كان يستطيع انتهاك عرضها. فولد ألف ولدٍ لا يعرف لهم آباء. بعضهم من أمهات كن عذراوات لم يتزوجن. وأقحم مسرف خيله في المسجد النبوي حتى بالت الخيل وراثت هناك. وارتكب فضائع كثيرة وأجبر الناس على أن يقروا على أنهم خولٌ عبيد ليزيد بن معاوية. قام باستعراضهم واحداً تلو الآخر قائلاً" "تقر بأنك عبد قن ليزيد بن معاوية إن شاء باع وإن شاء أبقى". وكان يقتل من لم يقر ويختم على من أقر مثل ما تختم الإبل وتوشم على جلدها. فكان يختم على رقاب الناس كما كانوا يصنعون بالعبيد قبل الإسلام. بعض هؤلاء الناس كانوا أبناء الصحابة أو من الصحابة أمثال جابر بن عبد الله الأنصاري الذي هرب واختفى لأنه طُلب منه أن يحضر حتى يقر على نفسه أيضاً بأنه عبد ليزيد، لا أنه يطيع ويجيب بل عبد يقر على نفسه بالعبودية وأنه يمكن ليزيد بيعه لو أراد ذلك. فهرب واختفى وقام مسرف ابن عقبة باعتقال أسرته كرهائن واشترط عليه العودة ليتم فك أسرهم. فاستشار أم سلمة فيما يصنع، فقالت له: اذهب وبايع فإنك مجبر على ذلك ومضطر اليه.

وهنا صنع الإمام زين العابدين عليه السلام خيراً في أهل المدينة بل في بني أمية أيضاً، لأن الذين نهضوا في قضية الحرة أخرجوا في البداية بني أمية الذين خافوا على نسائهم فضموهن عند علي بن الحسين عليه السلام. وقد ذكر المؤرخون أنه عددهن كان كبيراً، إذ كان في بيت الإمام وما يتبعه ما يقارب الـ 400 منافية، أي من بني عبد مناف. وحفظهن من الاعتداء وحامى عنهن مع أنهن كن أزواج للقادة الأمويين الذين شاركوا في قتل والده الحسين عليه السلام إلا أنها أخلاق أهل البيت عليهم السلام.

ملكنا فكان العفو منا سجيةً

فلما ملكتم سال بالدم أبطح

فشتان ما كان التفاوت بيننا

وكل إناءٍ بالذي فيه ينضح

فكانت هناك القسوة والشدة والأسر والضرب والتقييد وقابلها هنا العزة والحفاظ وما شابه ذلك. وقد حفظ الأمويون للإمام زين العابدين عليه السلام هذا المعنى، أنه رجل ليس أهل للانتقام فلم يفعل بنساء الأموين ما جرى على عمته زينب سلام الله عليها من أسر وضرب وإنما حفظهن وأحسن حفظهن. لذلك عندما أتى الإمام زين العابدين بعد سيطرة مسرف ابن عقبة المري على المدينة، طُلب منه الحضور عند مسرف أو مسلم ابن عقبة. فجاء الإمام زين العابدين عليه السلام ودعا بدعوات فلما وصل إلى مسرف نهض هذا الرجل إلى الإمام واعتنقه وأجلسه وأدناه رغم أنه كان يتذمر منه. وقد سأل الإمام: "ما حاجتك؟" فقال الإمام: "ليس لي حاجة شخصية وإنما حاجتي هي أهل المدينة الذين جاورا رسول الله صلى الله عليه وآله وقد أوصى بهم خيراً إذ نصروه. ووضعهم الآن ما بين خائف وطريد وشريد فلو أمرت برفع هذا العرض عنهم من إقرارهم بالعبودية ليزيد بن معاوية". فأمر بذلك ومنذ تلك اللحظة انتهى هذا الأمر ببركة الإمام زين العابدين عليه السلام. فله منة على أهل المدينة بأنه أنقذ هذا الجيل من القتل أو الاستعباد والاسترقاق.

بقي الإمام عليه السلام في المدينة بعد تلك الفترة التي كان فيها خارج المدينة مدة حوالي 3 سنوات أو نحوها قضاها في البادية. وقد استقر الوضع بعودته وبدأ في حركات متعددة وقد كان الخط العام إبقاء نهضة الإمام الحسين ومأساة الإمام الحسين وقضيته حاضرة في الأذهان لا تغيب عن الناس. ولذلك كان يستفيد من كل الفرص للتذكير بها. فمثلاً كان يتذكر الحسين عليه السلام عند رؤيته قصاباً، وعند رؤية الماء، وعند رؤية المناظر المختلفة التي يمكن استدعاء قضية الإمام الحسين فيها، فيستدعيها. وكان هذا خطاً مستمراً.

الخط الآخر هو الخط العلمي فقد رأى الإمام السجاد عليه السلام أن جانباً مهماً من نهضة المجتمع الدينية يعتمد على بث العلم من مصادره الصحيحة. ولذلك فقد عمل الإمام خلال فترة 34 إلى 35 سنة في هذا الإطار بل وفي عدة اتجاهات:

الاتجاه الأول: أنه سعى لاستقطاب من يطلب العلم من الفقهاء. ولذلك قالوا إن فقهاء المدينة السبعة الذين يعدون في التاريخ الإسلامي، كانوا عيالاً على الإمام زين العابدين في علمهم أمثال محمد بن مسلم بن شهاب الزهري الذي يعد من علماء مدرسة الخلفاء، والذي يوصف بأنه ما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علم محمد بن مسلم بن شهاب الذي كان من تلامذة الإمام السجاد عليه السلام. كما أن القاسم بن محمد بن أبي بكر كان أحد فقهاء المدينة المبرزين وتلامذة الإمام زين العابدين عليه السلام. وقد كان سعيد ابن جبير، الذي استشهد على يد الحجاج على الولاية وعلى محبة أمير المؤمنين عليه السلام، ممن أخذوا العلم من الإمام زين العابدين عليه السلام وغيرهم كثيرين إذ ينقل عنه الكثير ويكفي أن المؤرخين والكتاب ذكروا من أصحابه ما يزيد عن 170 ممن أخذ منه العلم وروى عنه الحديث. ويعتبر هذا العدد كبيراً فمنهم زيد الشهيد وقد سبق ذكر منزلته العلمية في وقت مضى، كما ان الباقر عليه السلام كان أحدهم أيضاً فضلاً عمن كان خارج هذا الإطار.

الاتجاه الثاني: تكريس الأخلاق والارتباط بالله عز وجل في خطة مقابلة لتخطيط الامويين الذي كان ينتهي إلى انهاء الحالة الأخلاقية. بالرغم من أن الخط الاموي السفياني الأول كان سيئاً، إلا أن الخط المرواني الذي جاء فيما أشد سوءاً إذ كان معاوية في البداية، ثم يزيد الذي حكم 3 سنوات وأحدث كل سنة مشاكل ومصائب أعظم من الأخرى وأعظمها قضية كربلاء إلى أن انتهت أيامه ولم تنتهي آثامه. وقد تلاه ابنه معاوية بن يزيد الذي كان رجلاً متعقلاً، وقد صعد المنبر عند قدومه أول مرة كخليفة وقال:" قد علمتم أن جدي معاوية قد نازع علي بن أبي طالب هذا الأمر حتى أفضيا إلى ربهما" بما معناه أنه لا يريد الخوض في الحديث عنهما." ثم جاء أبي ففعل ما فعل، فإن كان خيراً فيكفي بني أمية ما أخذوا منه، وإن كان شراً فما أنا متقلدٌ فيه شيء". ثم نزل واعتزل الناس. وقيل بأنه بعد ذلك دُبرت له عملية اغتيال وقتل. وبذلك انفرطت مسبحة الدولة الاموية ونظام الحكم فأصبح في دمشق جماعة، وقد قال الضحاك الفهري بأنه خليفتهم، بينما قال مروان بن الحكم في جهة أخرى بأنه الخليفة. أما عبد الله بن الزبير في المدينة ومكة فقد قال بأنه الخليفة. وبدأت المعارك بين هذه الفئات وانتهى الأمر إلى غلبة مروان بن الحكم وسيطرته على الوضع في الشام ثم تفرغوا وتوجهوا إلى ابن الزبير وحاربوه حتى قتل ابن الزبير وأخوه مصعب وتأتي في هذه الأثناء قضية المختار الثقفي قبلهم، فصفى الأمر إلى مروان بن الحكم وبه بدأ الخط المرواني في تاريخ الأمة الإسلامية. ولم يبقى مروان طويلاً كما أخبر مولانا أمير المؤمنين عليه السلام قبل مجيئه فقال:" أما إن له إمرةً كلعقة الكلب أنفه" وبالفعل فلم يستغرق حكمه أكثر من 6 أشهر ومات ميتةً سيئة. فزوجته أم خالد بن يزيد، وهي زوجة يزيد التي كان لديها ولد هو خالد بن يزيد. أخذ مروان يعير خالد في المجالس بأن أمه كذا وكذا من الأمور الخاصة بين الزوجين أي يكشف عن سوءاتها فيما يرتبط بقضية الفراش وهو أمر لا يصدر من عاقل في حق زوجته. ولكنه كان يريد أن يكسر في خالد بن يزيد ويحطم شخصيته فيقول بأن أمه كذا وكذا من أمور لا يناسب ذكرها على هذا المنبر. فلما سمعت هذه المرأة من ابنها أن الرجل يقول هذه الأمور فيها، تركته يخلد للنوم ثم وضعت على وجهه وسادة وجلست عليها فلم يستيقظ الرجل بعدها. وبعده جاء عبد الملك بن مروان، وقد لخص كل حكمه بما نقل عنه بأنه كان في مكة المكرمة يقرأ القرآن وكان يكثر من الذهاب إلى المسجد الحرام، فلما وصله خبر أن أباه مروان قد مات وأنه أصبح الخليفة أغلق القرآن وقال هذا فراق بيني وبينك. وافتتح عهده بخطاب فيه الوعيد وفيه التهديد: " أنا لست بالخليفة المأبون ولا بالخليفة المستضعف من قال برأسه كذا قلنا بسيفنا هكذا، والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا قطعت عنقه". وقد كان هذا افتتاحه وسياسته إذ ركن القرآن جانباً وتحدث بلغة السيف. وقد استقدم الحجاج بن يوسف الثقفي وجعله كل شيء في الدولة، ولا يخفى الحجاج وبطشه. هذا كله من جانب، أما من جانب آخر فهو الموضوع الأخلاقي. فقد حدثت خلال هذه الفترة عملية تخريب للأخلاق، ابعاد للمقدسات، تحطيم لكل شيء فيه قداسة. حتى وصل الأمر بالحجاج الحديث عن قبر النبي صلى الله عليه وآله بقوله: "ما بالهم يطوفون بأعواد ورمة بالية". أما الكعبة فقد قال بعض الأمويين المروانيين بأنه أراد أن يتخذ له حجرةً على الكعبة وقد كان غرضه إخراجها من حالة القداسة. أما القرآن فذلك الوليد وهو مرواني يقول:

تهددني بجبار عنيد

فها أنا ذاك جبار عنيد

لإن لاقيت ربك يوم حشر

فقل يا رب مزقني الوليد

مرات العرض: 3428
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2559) حجم الملف: 50186.56 KB
تشغيل:

أبو  الأنبياء ابراهيم عليه السلام
العبادات بين الطقوس والمقاصد ( ليلة الشهادة )