المحقق النائيني وتأسيس الفقه السياسي
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 4/9/1434 هـ
تعريف:

المحقق النائيني وتأسيس الفقه السياسي


تصحيح الأخ الفاضل أبي محمد

    روي عن سيدنا ومولانا أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه قال: ( إذا كان يوم القيامة حشر الناس على صعيد واحد فتوزن دماء الشهداء ومداد العلماء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء)
    من أجلى مصاديق من يكون من العلماء مدادهم أرجح من دماء الشهداء مرجع الطائفة في زمانه آية الله الميرزا محمد حسين النائيني رضوان الله تعالى عليه المتوفى سنة 1355هـ.
   هذا العالم الجليل والمتضلع في فنون مختلفة والمؤسس في علم الاصول لمباني مهمة ومسالك جديدة كان أيضا رائداً من رواد الفقه السياسي والتأليف فيه، بل يمكن القول أنه كان من المؤسسين للنظرية السياسية عند الشيعة فيما يرتبط بالحكومة الدستورية، وهذا الكلام عمره الآن ما يقرب الـ 100 عام، بعض القضايا عندما يمر عليها الزمن تصبح أمر مسلم به، الآن مثلاً عندما يُتحدث عن ضرورة الدستور وأهمية المجلس البرلماني المنتخب وفصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية عن بعضها يكون شيء بديهياً، بل نجد الأن في كثير من المجتمعات هناك نداءات بالحكم الدستوري وباللجوء للانتخابات وبتأكيد فصل السلطات وكتابة الدستور، الآن قسم من الشعوب المسلمة أقصى غاياتها أن تطالب بمجلس منتخب وبحكومة محكومة بدستور ومجلس برلمان، لكن عندما نرجع إلى قرن من الزمان نجد أن هذا الأمر يعتبر سبقاً كبيراً وقفزة واسعة في المستقبل، وهذا ما حققه المرحوم المحقق النائيني - أعلى الله مقامه –
ولكي يتبين لنا أهمية هذا النظر والفكر السياسي الذي عبر عنه المحقق النائيني نحتاج لمقدمة نقدم بها.
الحكومات الموجودة غالباً تنتمي إلى أحد ثلاثة أنماط من الحكم:
النمط الاول : الملكي او السلطاني او الأميري المطلق

    في هذا النمط الحاكم ملكاً كان أو سلطاناً أو شيخ مشيخة أو شاهٍ شاه يمارس فيه السلطة المطلقة من غير رقيب ولا حسيب، هو من ينصب ويعزل من غير أن يسأله أحد، يوزع الميزانية بالنحو الكذائي، لماذا فعل هذا؟ ولم يفعل بالنحو الاخر؟ لا أحد له صلاحية في سؤاله عن هذا الأمر لا يسئل عما يفعل.
الحكم الملكي المطلق، عبر عنه أحد ملوك فرنسا لويس الرابع عشر عندما قال أنا الدولة والدولة أنا، الشعب أنا والحكم أنا والرئيس أنا والمرؤوس أنا، وأمور الدولية المالية كلها تحت تصرفي.

النمط الثاني: الحكم الدستوري
   في هذا النمط يكون هناك ملك أو سلطان أو إمبراطور أو أمير ولكنه يعتمد على دستور مدون للبلاد ويطبق ما فيه، يعني صلاحيات هذا الملك أو السلطان أو الامبراطور يحدد عن طريق الدستور، فحقوق الملك يحددها الدستور.
هناك إلى جانبه أيضا مجلس برلماني منتخب من قبل الناس، والذي يكون بمثابة استفتاء على شرعية هذا النظام أو هذا الحكم، فهذا ينتخب من قبل الناس ونفس هذا المجلس يُعيّن رئيس الوزراء
ويراقب عمله ويحاسبه، فإن أحسن الصنع أثنى عليه وإن أساء الصنع عزله وجلب رئيس وزراء آخر. ومثل هذا النظام موجود في كثير من دول العالم كالمملكة المتحدة فهذا النظام نظام ملكي لكن يوجد مجلس برلمان منتخب ونواب يراقبون ويحاسبون الوزراء، فالملكة ليس لها مسؤولية.
   اليابان أيضاً نظامها امبراطوري، فالامبراطور موجود ولكن يوجد مجلس برلمان ورئيس وزراء منتخب يحاسبه هذا البرلمان وكذلك أيضا الحال بالنسبة لاسبانيا وكندا واستراليا إضافة إلى عدد من الدول المتقدمة التي لديها نظام ملكي ولكنه دستوري.

النمط الثالث: النظام الجمهوري
   في هذا النمط ، لا يوجد ملك أو سلطان أو إمبراطور وإنما رئيس ينتخبه الناس انتخابا حرا مباشرا أو انتخابا من خلال الاحزاب.
   في العالم الاسلامي، منذ التاريخ القديم كان النظام الوراثي الملكي أو الخلافي أو الاميري هو الشائع والسائد، فتأتي أسر تأتي وتحكم بلد من البلدان فإذا مات الملك أو السلطان يأتي ابنه.
   إيران كانت من جملة تلك البلاد التي كان فيها حكم ملكي، بدأ من أيام الدولة الصفوية ثم تتابع في أيام القاجاريين - اسرة ملكت ايران - جدهم سيطر على الحكم وصار ملكاً، فجاء أبناءه من بعده وورثوا الحكم فلا يسئل الملك والشاه عن شيء يعتبر إيران مزرعة يأخذ ما يأخذ ويدع ما يدع إلى زمان ناصر زين الدين شاه القاجاري الذي أفرط في الصرف والتبذير واللعب بالأموال وإتباع الشهوات إلى حد أنهم يقولون: أنّ عدد زوجاته وصل إلى 58 زوجة بالدائم والمنقطع، فأفرط في الصرف إلى وصلت خزينة الدولة إلى حد الإفلاس. فلك أن تتصور بلاد مثل إيران الزراعة الموسمية المختلفة موجودة فيها في وقت واحد، الجنوب اقرب للحرارة الوسط شبه الربيع في الشمال شبه الشتاء، فالزراعة كانت كثيرة والبلد كانت غنية، وعلى أثر الصرف كادت أن تفلس، إبنه أيضاً المظفر الدين شاه كان على نفس النهج، فتعالت كلمات الناس، إلى متى هؤلاء الملوك والحكام يصرفون أموال الشعب بهذه الطريقة ويديرون البلد بنحو فاسد؟ لماذا لا يكون لنا كسائر الأماكن في الدنيا دستور مكتوب يلتزم بها الحاكم ويكون مجلس برلمان يراقب أداء الحكومة؟ فبدأ هذا الكلام ينتشر فيما يعرف بثورة الحركة الدستورية أو التعبير الإيراني المشروطية، وكان في طليعة الركب الاخوند الخرساني أستاذ المحقق النائيني وأهم معاونيه والذي أصبح مرجع الطائفة في زمانه.
فقهاء البلاط وتزوير الوعي:
   عندما بدأت هذه الحركة بين الناس، السلطة الحاكمة حرّكت المكينة الدينية -جماعة الافتاء- الذين يفتون وفق رغبات الحاكم فبدأوا يكلمون الناس ويطرحون عليهم اشكالات من قبيل:
 ما هي الدعوات التي جلبتموها وصدقتموها؟
  تريدون حرية وعدالة وتريدون دستور وبرلمان منتخب، أتعلمون معنى الحرية ؟ الحرية معناها أنّ زوجتك  تكون حرة أن تنام مع الغريب وأنت ليس لك سلطة عليها، عندما قيل لهم ذلك رفضوا الفكرة.
ما معنى المساواة ؟
الكافر يصبح مساوي للمسلم في حقوقه وهذا على خلاف الدين أن الكافر النجس مساوي للمسلم المقر برسول الله صلى الله عليه وآله.
ما معنى دستور ؟
أن يجلب شيء ويتركوا القرآن الكريم، فمن يقول بالدستور يرفض حكم القران.
ما معنى البرلمان ؟
معناه أن الإنسان لا يذهب للرسالة العملية لتعليم الأحكام وإنما يأخذوا الأحكام من أفراد مجلس البرلمان، هؤلاء هم من يشرعوا الأنظمة ويحددوا ماهية الصلاة وفق هواهم.
فبدأت هذه الحركة الاعلامية التي جندها الحكام في تشويه فكرة العدالة والحرية والمساواة وفصل السلطات وضرورة الدستور والمجلس البرلماني.
تحرك علماء لأمة:
    هنا تحرك العلماء في توضيح هذه المسائل وكتب المرحوم النائيني الشيخ محمد حسين كتاب تنبيه الامة وتنزيه الملة، وأثبت في هذا الكتاب الذي ترجم من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية أن أصل هذه المبادئ الحرية والعدالة والمساواة وفصل السلطات وإيجاد الدستور والبرلمان المنتخب كلها  تتوافق مع مبادئ الاسلام والشريعة ولا تخالفها.
 ففكرة الكتاب تتناول الحديث عن قبح الاستبداد وأن الاستبداد شيء قبيح سواء كان داخل المنزل بين الزوجين أو حتى إذا وصل للحاكم بأن يستبد برأيه ويستغني به عن الآخرين، هذا الاستبداد في مقابل الشورى شيء غير صحيح وغير حسن وأورد الروايات والنصوص الشرعية التي تقبح الاستبداد كقبيل ( من استبد برأيه هلك ) ( ومن شاور الرجال شاركها في عقولها ) إلى غير ذلك من الروايات بعدها، قال إننا في زمان غيبة الامام المعصوم قائم آل محمد عجل الله تعالى فرجه ولذلك لا يوجد دولة مثالية في زمانه، إذا لم تكن هناك دولة مثالية على مقاييس الأئمة، هل نذهب إلى الاستبداد مباشرة؟ هناك حل وسطي وهو تأسيس دولة دستورية مقيدة بقانون وبرلمان، الناس له آراء وتستطيع الاعتراض، وهذا في صلاح البلاد لا سيما إذا دخلت الفئة المتدينة والعلماء وراقبوا هذا الامر، سيكون أفضل بكثير من هذا الوضع القائم، ثم إن هذه المبادئ كلها قد تحدثت عنها الشريعة الاسلامية، فالعدالة والمساواة من الاصول التي تكلمت عنها الشريعة، والحرية بمعنى حرية الانسان أن يبدي رأيه في ما ينتهي إليه الصالح العام، هذه من القضايا التي توجد أدلتها في الأسلام، فبدأ يفند هذه الكلمات التي التي تم نشرها من وعاظ السلاطين وأرادوا بها التدليس على الناس في تحريفهم لمعاني الحرية والعدالة والمساواة. فقال المساواة أن يكون الجميع بدرجة واحدة في تطبيق القوانين، وليس أن يكون القانون مطبق على الفئة الضعيفة ولا تطبق على من يمتلك القوة والواسطة.
   فالكل لابد ان يكون على قدم المساواة في القانون وفي الحقوق والواجبات، وليس من لديه الواسطة أن يفلت من الحساب والعقاب ومن لا تتوفر لديه الواسطة ينال العقاب، لابد أن يكون الجميع على قدم المساواة في القانون وفي الحقوق والواجبات.
 فصل السلطات لابد القاضي الذي يحكم بشكل صحيح أن لا يخاف من السلطات، لابد أن يقضي بما انتهى إليه قانون العدل، ولابد أن يكون هناك دستور مسجل فيه ما الذي يجب على الحاكم وما الذي يجب له وما الذي يجب على الرعية وما الذي يجب لها.
فطرح هذا الكتاب في ذلك الوسط واحدث ضجة من الوعي والمعرفة ، بحيث يعد كتاب المحقق النائيني من الفواصل بين عصر وعصر.
وقد أنتج هذا الكتاب قبل أكثر من 100 سنة تقريبا من الان، أي عام 1918 أو 1915 ونحن الآن في القرن الحادي والعشرين.
   فالمحقق النائيني طرح هذه الأفكار السياسية والمشروع السياسي المتقدم في ذلك الزمان السحيق، هنا نفهم لماذا يكون مداد العلماء أرجح من دماء الشهداء؟ لأنه يفتح للأمة طريق المستقبل.
   هذا العالم بإنتاجه الفكري والثقافي وبعطائه للأمة يفتح لها مجال لـ 100 عام للأمام، لو إتبعته في ذلك الزمان ، لكان من ذلك الزمان هناك مجلس برلمان وفص سلطات ودستور وإلى آخره ولا يحتاج إلى أن المسلمين في هذه السنوات الحالية أن يبدءوا بإقناع بعضهم البعض ، بأن مجلس البرلمان جيد أو غير جيد، وأن كتابة الدستور لازمة أو غير لازمة، وإلى الان تطرح نفس الحجج التي استخدمها سابقيهم في أن هذه افكار غربية وأنه من الغزو الثقافي والفكري الاجنبي.
وهذا الكلام نفسه قاله المحقق النائيني صحيح أن هذه الأمور منشئها الآن في الغرب، ولكن أصولها كلها تتوافق مع روح الشريعة الإسلامية ونجد لها أصول شرعية، لذلك عندما يكون العالم يفتح للأمة طريق المستقبل يعطيها نظرية في السياسة ونظرية في الثقافة والتطور الثقافي، ذاك الوقت بالفعل يكون مداده أرجح من دماء الشهداء، لعمق تأثيره في الأمة والمحقق النائيني رحمة الله عليه أستاذ الفقهاء كان على هذه الشاكلة ومن أهم اساتذة مرجع الطائفة في زمانه السيد محسن الحكيم وكان المحقق النائيني من أساتذة مرجع الطائفة الخوئي، والسيد الخوئي بالذات يلاحظ شدة تأثره بمسلك أستاذه النائيني الفقهي والأصولي، حتى بعض العارفين عندما يراجع يلاحظ تحت السطور آراء النائيني، كيف استطاع تلميذه أن يهضمها هضماً جيداً وأن يبلورها ويستفيد منها.
ولم يكن هذا الجانب فقط عند المحقق النائيني بل كان مبتكراً في الفقه والأصول، في الاصول يذكرون عنه عدد من المسالك الجديدة التي لم تكن شائعة أو على الأقل لم تكن بهذا الإحكام الذي ركزها به المحقق النائيني، هناك مسلك في الأصول مهم جداً يسمى الترتب من المسائل التي توصل إليها الفقيه يستطيع أن يستدل على مئات المسائل الفقهية في عشرات الأبواب بهذا القانون ومسلك الترتب وهذا الموضوع يحتاج له الكثير من الطرح .
مثال على هذا القانون:
     عند بعض العلماء كانوا يقولون مثلا لو أن شخصاً كان مديون بمبلغ من المال أتى الدائن إليه وقد حل وقت سداد الدين، قال : الآن لابد من تسليمي المال، الان أنا محتاج اليه والآن قد حل وقته، المفروض على الفور يعطيه ماله ويرد إليه الدين، لو فرضنا أن المديون قال مثلاً: أنا أريد أن أصلي الصلاة، فهل تصح صلاة هذا الإنسان المصلي الذي لم يقبل امتثال أداء الدين في وقته؟
عند العلماء القدماء كانوا يفتون ببطلان الصلاة لماذا ؟
لأن الواجب عليه الآن من الله هو أداء الدين وليس الصلاة، فالصلاة التي صلاها باطلة ،هذا مسلك القدماء الى قريب من زمان النائيني.
    المحقق النائيني درس هذا الموضوع مع بعض أساتذته، وتدخل فيه بشكل رائع وقوي واستطاع أن يثبت في مثل هذه الحالة وأمثالها، فرأى حتى أنه لو لم يؤدي دينه فقد أساء الفعل ويمكن أن يعاقب يوم القيامة على هذا الأمر، لكن لو صلى في ذلك الوقت تكون صلاته صحيحة لماذا؟ هذا الامر يحتاج إلى بحث آخر مفصل لسنا في صدده الآن، فهذا مسلك من المسالك المهمة جداً عند الاصوليين في تطبيقاته الفقهية.
 منها مسلك تقسيمه للقضايا إلى قضايا حقيقية وخارجية وهذا من المسالك المهمة جداً في الفقه والعقائد وكثير من المجالات، فالرجل كان مبتكراً وعبقرياً جداً في كثير من النواحي ليس فقط في جانب الفقه السياسي وإنما ايضا في هذه جوانب الفقه والأصول، فهذا معناه أن مداد العلماء يرجح على دماء الشهداء لأنهم يحفظون الشريعة من جهة بتوضيح الأحكام ومن جهة يحفظون الأمة باستشراف  المستقبل بصورة صحيحة وبث الثقافة فيها وهذا ما صنعه المرحوم النائيني رحمة الله تعالى عليه.
في هذه الطائفة نحمد الله تعالى عليه أان هكذا كان علمائنا اقتداء بسادتهم وقادتهم جمعوا الجانبين مداد العلماء ودماء الشهداء، أنظر إلى أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام بحر الله الذي لا ينفد، علمني رسول الله صلى الله عليه واله الف باب من العلم ينفتح لي من كل باب الف باب، لا حدود لعلمه صلوات الله وسلامه عليه راجع نهج البلاغة يكفيك نظرة واحدة منها، فهو هو الشهيد في محرابه.
 ائمة اهل البيت جمعوا المداد والدماء من جهة فهذا الحسين سلام الله عليه عالم أهل البيت في طرف ولكنه عندما رأى الدين أنه بحاجة إلى دمه الشريف أقدم على نصر الدين وأراق نفسه الزكية في سبيل حفظ هذا الدين.

مرات العرض: 3437
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2580) حجم الملف: 14464.16 KB
تشغيل:

المحدث النوري صاحب المستدرك وفصل الخطاب
المدرسة التفكيكية وميرزا مهدي الاصفهاني