نص الشريط
تطور المأتم الحسيني عبر العصور
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 1/1/1427 هـ
تعريف:

تطور المأتم عبر العصور


كتابة الفاضلة أمجاد عبد العال


ورد في الخبر عن سيدنا ومولانا رسول الله (ص): "إن لقتل الحسين في نفوس المؤمنين حرارة لا تبرد أبدا".
حديثنا يتناول تطور المأتم الحسين، عبر مختلف العصور، إلى أن وصل إلى زماننا هذا. لا شك أن المأتم الحسيني، والمنبر الحسيني مر في أدوار مختلفة، ومتعددة إلى أن صار في صورته الحالية، التي نراها. فما هي تلك الأدوار التي مر بها هذا المأتم وهذا المنبر؟
يرى بعض المحققين، وهو المرحوم آية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدين، في كتابه: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، أن هناك ثلاثة أدوار يمكن أن يقسم إليها ما مر على المنبر والمأتم الحسيني. الدور الأول، يقول: هو مما بعد الواقعة، بعد حادثة كربلاء، إلى زمان سقوط بغداد، في سنة 656 هجرية، وهي الفترة التي تمدت إلى حدود 600 سنة تقريبا، من بعد الواقعة. الدور الثاني: هو من سقوط بغداد، سنة 656 هجرية، إلى بدايات العصر الحديث، والدور الثالث: من بدايات العصر الحديث، إلى أيامنا هذه. ولكل مرحلة من المراحل ودور من الأدوار، مواصفات خاصة، وعلائم معينة، يشترك فيها في هذا الدور.
نحن نعتقد أن هناك شيئا من التغيير، يمكن أن يضاف إلى هذا التقسيم، ونعتقد أن هناك أربعة أدوار مر بها المأتم الحسين والمنبر، وهي تبدأ:

مما قبل الحادثة في بدايات مبكرة لرثاء الحسين (ع)، على يد رسول الله (ص)، وأمير المؤمنين، ويستمر هذا الدور إلى نهاية الغيبة الصغرى، لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه. والدور الثاني: من بداية الغيبة الكبرى، إلى سقوط بغداد. جهة التقسيم، سوف نتعرض إليها فيما بعد، ما الذي يجعلنا نقسم هذا التقسيم، وليس التقسيم الآخر.
بالنسبة إلى الدور الأول، فأول راث للإمام الحسين (ع)، وذاكرا لمصيبته بصورة عاطفية، يمكن أن يقال أنه رسول الله محمد (ص). وذلك فيما ينقله الفريقان من أحاديث كثيرة، نقتصر على حديث واحد منها. فقد نقل الطبراني وهو من محدثي أهل السنة، في كتابه المعجم الكبير، الجزء 23 هذه الرواية، والتي هي أيضا موجودة في مجاميع شيعة أهل البيت (ع).
هذا المحدث يقول بأسانيده: أنه دخل رسول الله (ص) على أم سلمة، وقال لها: - مضمون الحديث، أنا أختصره - أنه يريد أن يرتاح في داخل الدار، ولا يريد أحدا أن يدخل عليه، في هذه الأثناء، أم سلمة انشغلت وجاء الحسين وهو طفل صغير لعله في الخامسة من العمر، وانساب إلى أن دخل الدار التي فيها رسول الله (ص).
بعد قليل أحست أم سلمة أن النبي يبكي. ففتحت الباب ورأت الحسين عنده، وقد جلس على صدره، أو أجلسه على صدره، وعين رسول الله تفيض بالدموع، فسألته عن ذلك، فقال رسول الله (ص): كان عندي جبرائيل الساعة، ونظر إلى الحسين، فسألني: هل تحبه؟ قلت: بلى، قال: فإن أمتك سوف تقتله في أرض يقال لها كربلاء، وإن شئت أريتك من تربة قبره. فقبض قبضة وأعطاني إياها، فما تمالكت أن فاضت عيناي دموعا.
هذا الحديث الذي ينقله الطبراني في معجمه، يبين لنا أن أول من تحدث في مصيبة الحسين (ع) وتأثر بها - وبطبيعة الحال - سوف يؤثر في المحيط الذي كان حوله، هو رسول الله (ص). فهذه الرواية نفسها عندنا، في كتب شيعة أهل البيت، الصدوق، شيخنا الصدوق، رضوان الله عليه، ينقلها، ويضيف كما في روايته عن الإمام الباقر (ع): ثم أعطى رسول الله من تلك التربة لزوجته أم سلمة وقال لها: إذا رأيتيها قد صارت دما عبيطا، فاعلمي أن ذلك اليوم يوم قتل حبيبي الحسين (ع).
أمير المؤمنين سلام الله عليه، أيضا قبل الحادثة بحدود 20 أو أكثر من الزمان، بل بحدود 25 سنة تقريبا، عندما كان متجها إلى صفين، كما ينقل ذلك، محدثو السنة ومنهم أحمد بن حنبل في مسنده، في الجزء الأول، يقول: بينما كان علي بن أبي طالب، متجها إلى صفين، وكان معه عبدالله بن نجي الحضرمي، يقول: فلما حاذ علي (ع) نينوى، كربلاء، اغرورقت عيناه بالدموع، والتفت إلى جهة كربلاء، وقال: اصبر أبا عبدالله، اصبر عبدالله، بشط الفرات. فسأله عبدالله بن نجي: وما ذاك، فأخبره بنفس الخبر الذي تقدم عن رسول الله، وماذا تحدث مع جبرائيل، وكلام أم سلمة معه. ولا شك أن مثل هذا المحيط العاطفي، كان يؤدي إلى تأثر من حضر مع أمير المؤمنين (ع) بقضية الحسين، والجانب العاطفي والمأساوي فيها.
فإذن، هناك بدايات مبكرة لقضية المأتم، والحديث البكائي، والرثائي، والجانب العاطفي، سواء من قبل رسول (ص)، أو من قبل أمير المؤمنين، وذلك قبل حدوث الواقعة بمدة طويلة.
وبعدما وقعت واقعة كربلاء، سنة 61، تولى أئمة أهل البيت (ع) أمر المأتم الحسيني بأشكال مختلفة. فالإمام السجاد نفسه كان يستدعي باستمرار الصور العاطفية من كربلاء، فإذا ذهب إلى السوق، ورأى غريبا يستدعي إلى الذهن صورة غربة الحسين (ع)، ويتحدث في هذا الجانب. إذا رأى أحدا يعرض الماء على أحد، بشرا كان أو حيوانا، استدعى إلى الذهن والذاكرة، صورة عطش الحسين سلام الله عليه، وهكذا تحول الإمام زين العابدين (ع) إلى قائم بهذا الجانب، وإلى مثير للقضية الحسينية في جانبها العاطفي والمأساوي.
وهكذا استمر نفس الدور في أيام الإمام الباقر، وفي أيام الإمام الصادق، فصار عندنا شعراء متخصصون ينشدون الأشعار وينظمونها في القضية الحسينية، يذكرون: الكميت بن زيد الأسدي، رضوان الله عليه، سيد إسماعيل الحميري، سفيان بن مصعب العبدي، وآخرون، هؤلاء كانوا ينشئون وينظمون الأشعار، خصوصا في رثاء الحسين (ع).
بل أكثر من هذا، أصبح عندنا طبقات شبه متخصصة. مثلا: القصاص. قاص يأتي ويقص تفصيل الواقعة كما جرت في كربلاء، كيف بدأت؟ إلى أين انتهت؟ من الذي برز؟ من الذي بارز؟ من الذي قتل؟ من الذي قُتل؟ كيف استشهد هؤلاء؟ فقد تخصص عدد من الناس في إنشاء القصص الكربلائية.
وقسم آخر في الندبة، مثل طريقة الملا عندنا، أو الريزخون، إن صح التعبير، أو في بعض الفترات من كان يطلق عليهم: المداحين. يعني: هذا فقط كان يحفظ شعرا رثائيا ويأتي لكي ينشده في المجامع والبيوت، وفي هذه الأماكن، بل حتى عند قبر الحسين (ع)، كما ينقل شيخنا الحر العاملي، أعلى الله مقامه، في رواية، ينقلها هناك، فيقول: إن رجلا جاء إلى أبي عبدالله الصادق (ع)، وقال: لقد كنت في كربلاء، في النصف من شعبان، فرأيت الناس ما بين قاص يقص، ونادب يندب، ومنشد ينشد، يعني: أن هؤلاء مثل الحلقات، قسم: يريد أن يتعرف على الواقعة من خلال الاستماع إلى قصتها، وقسم: يريد أن يبكي فيسمع إلى النادب أو منشء الأشعار. فترحم الإمام الصادق عليهم ودعا لهم بالخير والمغفرة، وأن جزاءهم على رسول الله (ص). جعلنا الله وإياكم جميعا ممن يثيبهم الله على مواساة الأئمة في الحسين.
استمر مثل هذا الأمر إلى أيام الإمام الكاظم والرضا. والإمام الرضا استفاد في قصر الخلافة؛ لكي يستنشد الشعراء في رثاء الحسين (ع)، وظهر رثاء الحسين في أيامه بشكل واضح، واستمر مثل هذا الأمر إلى زمان الغيبة الصغرى، وما قبلها للإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه.
ففي زمان الإمام الحجة، حدث تطور جديد، وهو أن نفسه صاحب العصر والزمان يؤثر عنه نصان مفصلان، فيما يرتبط بقضية كربلاء. النص الأول: الزيارة المعروفة بزيارة الناحية المقدسة. وهناك نقاش بين العلماء: هل بالفعل الإمام صاحب العصر والزمان هو الذي أنشأها أم لا.
فالذين يذهبون إلى أنه نعم: هذا من كلام صاحب العصر والزمان، يعلقون عليها؛ ولذلك يسمونها: بزيارة الناحية المقدسة، أي زيارة صاحب العصر والزمان (عج) لجده الحسين. وهذه الزيارة تحتوي على تفصيل واضح في جانبي المعاني وفي جانب الرثاء، والمأساة الحسينية بشكل مفصل. نص قوي وجميل، فيه معان قوية، والذي يذهب من العلماء إلى أن هذه الزيارة مروية عن الإمام الحجة، يسميها: بزيارة الناحية المقدسة. يعني زيارة الحجة لجده الحسين.
قسم آخر من العلماء يتأملون في نسبة هذه الزيارة إلى الإمام الحجة، على أي حال؟ على فرض صحة النسبة، تكون إحدى النصوص التي أنشأها صاحب العصر والزمان في رثاء الحسين، وفي تخليد الجانب المأساوي والعاطفي في هذه القضية. هذا النص الأول.
النص الثاني: الزيارة المعروفة بزيارة الشهداء. وهذه سندها معتبر، وتنسب بطريق حسن إلى صاحب العصر. وفيها، أسماء شهداء كربلاء، وأسماء قتلتهم والذين يبحثون في تاريخ كربلاء، وتاريخ القضية لا يستغنون عن مثل هذه الزيارة. وفيها سلام على الشهداء ثم ذكر قتلتهم. مثلا: عندما يأتي فيسلم على أبي الفضل العباس، يقول: السلام على أبي الفضل العباس الفادي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، لعن الله قاتله حكيم بن طفيل وزيد بن رقاد"، ففي هذا النص الموجود في الزيارة، يذكر مقتل أبي الفضل، ويذكر من قتله أو شارك في قتله.
وتنتهي هذه الفترة، وينتهي هذا الدور الأول بغيبة الإمام صاحب العصر والزمان، ويستمر شيعة أهل البيت (ع) في إقامة المأتم بمقدار ما يستطيعون وما يوفره الظرف الموجود.
طبعا، لم يخل الأمر من معارضات، ومن مشاكل، ومن متاعب، أثارها المتعصبون ضد المأتم الحسين. مثلا ينقلون: أنه كما كان عند الرجال مآتم حسينية، ونادبون وخطباء، بحسب تعبيرنا المعاصر، كان هناك مآتم حسينية نسائية. فقد كان هناك نائحات متخصصات ونادبات قديرات في الرثاء. كانت أبرزهن، واحدة تسمى: ذرة، والأخرى تسمى: خُلَّب. وهذه المرأة: خلب، كانت نادبة قوية، وشديدة التأثير في صفوف النساء بالطبع، فقام بعض العلماء المتعصبين من المذاهب المتعصبة بالفتوى بقتلها. فواحد يسمى: أبو قتيبة البرباهري، أفتى بقتل هذه النائحة لمن استطاع أن يقتلها.
فأنت تتعجب أن مثل هذا التوجه في العنف، والتعصب، والتكفير، واستسهال القتل، ليس من اليوم، وإنما له تاريخ كبير في التزمت والاستبداد الديني. وإلا أن يختلف إنسان مع إنسان آخر؛ لأنه يقرأ مصرع الحسين، فيفتي مثلا بقتله، فهذا شيء في غاية الغرابة.
يبدأ الدور الثاني من تاريخ المأتم الحسيني مع انتهاء الغيبة الصغرى، وبداية الغيبة الكبرى لصاحب العصر والزمان (عج). فلماذا جعلنا هذا دورا آخر؟ في الواقع، لأنه حصل فيه حدث مهم أثر تأثيرا كبيرا على مستوى ووضعية المآتم الحسينية، وهو: أنه خلال حوالي 30 سنة، في تلك الفترة، قامت ثلاثة دول شيعية، بل أربع دول شيعية، أظهرت المأتم الحسيني، والرثاء الحسيني، والشعائر الدينية الشيعية. فهذا أثر تأثيرا مباشرا على تقدم المأتم الحسيني.
ثلاث أو أربع دول شيعية. الدولة الأولى: هي الدولة البويهية. والدولة البويهية، هي: دولة شيعية تكونت في بغداد، مع بدايات سنة 335 إلى 40 هجرية، تأسست هذه الدولة في بغداد بعد أن ضعفت الخلافة العباسية، وأصبح الخليفة العباسي أشبه بريشة تحركه الرياح، وكان اسما بلا معنى، ولا وجود له حقيقة. فبنو بويه، وهم من شيعة أهل البيت، سيطروا على الوضع في بغداد، وأعلنوا دولتهم: الدولة البويهية. ثم أظهروا الشعائر الدينية الشيعية. منها: قضية الآذان، قضية عاشوراء وكربلاء، بالذات أيام معز الدولة البويهي، إذ أعلن: أن اليوم العاشر يوم التعطيل. وهو السلطان، أو الخليفة، كان يخرج في سرادقات العزاء، ويشجع على العزاء والمأتم. فهذا صنع دفعة جديدة وقوة متزايدة للمأتم الحسيني. فأصبح للمأتم حماية قانونية، وأصبحت الدولة تتعاطف معه، وما عاد الشيعة يحيون مآتمهم في الخفاء وبسرية، وإنما أصبح من يقيم المأتم يشجع على ذلك.
هنا ينبغي أن نشير إلى ملاحظة، وهي تذكر كنقطة بياض، لمثل هذه الدولة، أنه في الوقت الذي كان هؤلاء شيعة، وأظهروا شعائرهم الدينية، لم يمنعوا شعائر بقية الفرق الإسلامية. ولم يحجبوها. فأي واحد عنده شعائر دينية خاصة به، عنده مسجده، عنده صلاة جماعته، عنده درسه، عنده كذا، فليصنع كما يريد. وقد أظهر هؤلاء شعار التشيع، وخاصة في القضية الحسينية. وهذا - في الواقع - نموذج ينبغي أن يحتذى في بلاد المسلمين. فإن لكل فئة ولكل جماعة الحق في أن تظهر شعائرها الدينية، وأن تتعبد الله بالنحو الذي تريد، من دون أن يقسرها أحد على الامتناع عن هذا الشعار أو عن ذاك الشعار، فأول دولة تأسست الدولة البويهية، ساهمت في دعم المنبر الحسيني.
الدولة الثانية، هي الدولة الحمدانية، في حوالي سنة 360 هجرية، فصاعدا، تأسست الدولة الحمدانية في شمال سوريا، حلب وأطرافها. والحمدانيون: قبيلة عربية أصيلة، وعلى أثر الفوضى التي كانت تعاني منها المنطقة، وتداعي قوة الخلافة وتراجعها، هم سيطروا على تلك المنطقة التي كانوا قد عاشوا فيها، وهي: حلب، وأسسوا دولتهم، وكانوا شيعة لأهل البيت (ع). فأظهروا شعار التشيع، وأحيوا مراسم كربلاء، وساهموا في نشر المأتم والمنبر الحسيني، بحيث كان زعماؤهم ورؤساؤهم يساهمون في مثل هذا المأتم في أيام عاشوراء، من رجالهم المعروفين، سيف الدولة الحمداني، والشاعر أبو فراس الحمداني، صاحب القصيدة الشافية:
الحق مهتضم والدين مخترم
وفيء آل رسول الله مقتسم
إلى آخر قصيدته، هذا أيضا، أي وجود هذه الدولة جعل المأتم الحسيني يتطور، يمارس نشاطه وعمله في العلانية، وفي الظهور، من دون خوف أو وجل.
الدولة الثالثة، كانت: الدولة الفاطمية التي تمكنت في مصر بحدود سنة 380 هجرية، وكانت قد بسطت سيطرتها وهيمنتها على مصر، وأظهرت شعائر التشيع، وشعائر الحسين (ع). ولعلنا نلاحظ أول مكان ذكر فيه اسم الحسينية بما هي مكان متخصص لذكر الحسين (ع)، هو: في مصر. فربما تأسس في مكان آخر، لكن التاريخ يسجل هذا في مصر.
راجعوا كتاب: مختصر تاريخ العرب، لمؤلفه مير علي، وهو من الكتب القيمة. يذكر يقول: "ومن أفخم عمارة الفاطميين في القاهرة: الحسينية، وهي بناء فسيح الأرجاء، عالي الأركان، يقرأ فيه قصة مقتل الحسين في كربلاء في أيام عاشوراء". فالحسينية، كما يقول، هي من أفخم عمارات الفاطميين في مصر. وتدرون بالعمارة الفاطمية. فهي عمارة متطورة، وإلى الآن معروفة بميزاتها الخاصة، يقول: "من أفخم من عمارتهم، كانت الحسينية. والحسينية هي المكان المعين، الواسع، العالي الأركان"، فهي بناء، يتخصص في قراءة المقتل وذكرى عاشوراء وأيام كربلاء، هذا يذكره هذا المؤرخ والمؤلف.
فصار عندنا في هذه الحالة، حسينية. ومعنى ذلك: أن الحسينية، في أقرب الفروض، عمرها أكثر من 1000 سنة من الزمان. سنة 380، ونحن الآن في 1427، يعني: أن بيننا وبين أول حسينية رسمية، مبنية على أساس أنها مكان لكي يذكر فيه قضية كربلاء، أكثر من 1000 سنة من الزمان، وكان ذلك في مصر. طبعا هذا فيما بعد تراجع، على أثر مجيء سلاطين بني أيوب، وصلاح الدين الأيوبي بالذات، حيث محى ومسح كل أثر للتشيع في مصر.
وعندنا دولة أيضا رابعة، لكن قد يكون تأثيرها، ليس ذلك التأثير العظيم، وهي الدولة العيونية، والتي كانت في الأحساء، وهي دولة شيعية، فالعائلة العيونية، الذين فيهم الشاعر، علي بن المقرب العيوني، وهو من الشعراء المهمين. وهذه أيضا كانت دولة شيعية أظهرت شعائر التشيع في مناطقها.
هذا التحول، هذا التغير: وجود عدد من الدول الشيعية في هذه منطقة المسلمين، في بلاد المسلمين، أثر أثرا مباشرا إيجابيا على المأتم الحسيني، واستمر هذا إلى سقوط بغداد. فقد كان هناك منشدون، وكان هناك خطباء، وصار عندنا شيء باسم الحسينية، وشيء من التخصص في ذكر الواقعة الحسينية.
الوقت أخذنا ولم نستطع أن نستوفي كل المبحث، وهو مبحث طويل الذيل، وفيه تفاصيل كثيرة، ولكن نحن نختصر الحديث إن شاء الله.
من بعد سقوط بغداد، سيطر التتار في البداية، ثم الأتراك فيما بعد، على وضع المسلمين. وكلا الفريقين ساهم مساهمة سلبية في انتشار المأتم الحسيني. فالتتار في بدايات أمرهم، لما جاؤوا جماعة عسكريون، لا يعرفون القضايا، وكانوا يخشون على مواقعهم وعلى ملكهم، وكان موقفهم العام في البداية، موقف سلبي تجاه كل الوجود الإسلامي، فمن الطبيعي أنهم لا يشجعون قضايا الاجتماع والالتئام؛ تخوفا على ملكهم.
فيما بعد. الأتراك أيضا قاموا بنفس الدور، أنهم كانوا على غير مذهب أهل البيت. ولم يكونوا ينظرون إلى المأتم الحسيني وما يجري فيه، نظرة ارتياح. لذلك عانى المأتم الحسيني في هذه الفترة من التراجع، ورجع من الواجهة التي كان فيها إلى الخلف، من العلانية إلى الخفاء، وإلى السرية، وإلى المحدودية. إلى بدايات العصر الحديث، كما يقول الشيخ شمس الدين، رحمه الله.
في هذا العصر توجهت الحوزات العلمية، والمرجعيات الدينية، إلى أهمية المأتم والمنبر، وأرادت أن تحدثه وأن تطوره، حتى يمارس الدور الأكبر في حياة أبناء الطائفة بل في حياة المسلمين. وبالفعل هذا الذي حدث. ففي الفترات السابقة إلى قبل بدايات العصر الحديث، كان المأتم الحسيني مقتصرا على ذكر الرثاء، إما رثاء شعري، وإما رثاء نثري، كما نجده -مثلا - في كتاب الفخري، الموجود الآن عندنا.
فكتاب الفخري للمنتخب، لفخر الدين الطريحي، بناء على أن يكون كل ما فيه صحيح النسبة للطريحي. فمن الواضح أن المضمون العام، وما فيه، هو مضمون رثائي ويختص بذكر الواقعة، من دون أن يكون هناك جانب آخر، غير جانب المصيبة، ووصف ما حصل فيها، ورثاء الحسين، وأصحاب الحسين (ع).
المرجعيات الدينية، والحوزات العلمية، في بدايات العصر الحديث رأت أنه له، لو تم تطوير المأتم الحسيني، لانتفعت منه جموع المسلمين، في التوجيه، والإرشاد. وبالفعل صار هناك تحركات مختلفة سواء على مستوى فردي، أو على مستوى جماعي، وأصبح عندنا مدرسة جديدة في الخطابة الحسينية التي لا تقتصر على ذكر المصيبة، وإنما الجهة الأساسية في المأتم كانت التوجيه الثقافي والعلمي والديني، بحيث يكون في هذا المأتم والمنبر جانبا معقولا من الرثاء الحسيني وذكر المصيبة.
والآن نحن نشهد هذه الطريقة الجديدة التي تنتشر في بلاد المسلمين، وبالذات في التجمعات الشيعية، ولا سيما في مثل هذه الأيام العاشورائية، وكيف كان لها نفع كبير جدا، بحيث تحولت المآتم الحسينية إلى مدارس توعوية، وإلى جهاز اتصال تثقيفي دائم، منذ ذلك الوقت الأول وإلى يومنا هذا.
فاستفادت منه المرجعيات الدينية حتى في مقاومة الاستعمار. فمثلا: وجدنا أيام المواجهة بين البريطانيين، وبين الحوزة العلمية وجموع المؤمنين في العراق، أيام ثورة العشرين، 1920، كيف خدم المنبر الحسيني حركة الوعي والجهاد والنضال. وهذا الاتصال الذي كان بين العلماء وبين الناس، من خلال المنابر، خدم المرجعية الدينية خدمة كبرى، وخدم الناس ولله الحمد.
ونحن نجد اليوم أنه أصبحت بعض هذه المنابر، أشبه بالمدارس الدائمة، ونذكر هنا بجميل الثناء والذكر، ونسأل الله له الرحمة، الشيخ الوائلي، تغمده الله بالرحمة، وأسكنه فسيح الجنة، الذي يعتبر رائدا من الرواد في هذا الجانب، وصاحب مدرسة في هذا التوجه الحديث للمأتم الحسيني والمنبر الحسيني.
ولم يكن الوحيد، كان أيضا، قبله آخرين. الشيخ: كاظم سبتي كان موجودا، الشيخ محمد علي اليعقوبي كان موجودا، سيد صالح الحلي كان موجودا، وآخرون، كانوا في هذه المدرسة، وضمن الإطار الجديد للمآتم والمنابر الحسينية. ونحن نشهد - بحمد الله - آثار وبركات وخيرات هذا التوجه الجديد. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يديمه وأن ينفع المؤمنين خير نفع. إنه على كل شيء قدير.
بعد هذا التطواف، وإن كان غير مستقص. ينبغي أن نخلص إلى عدة أمور، الأمر الأول: أن التطوير في المأتم والمنبر الحسيني يخدم المأتم والمنبر ولا يضره. يعني: لو فرضنا أن المأتم الحسيني والمنبر الحسيني، بقي على حالته الأولى الرثائية المجردة، ربما كان عدد كبير من الناس لا يستهويهم هذا الجانب، فكانوا ينفضون عن التوجيه، وعن الإرشاد، وعن المعرفة الدينية. وتطور هذا المأتم والمنبر إلى أن وصل إلى صورته الحالية، فبعض المآتم نراها مدرسة تفسيرية، وبعض المآتم نراها مدرسة تربوية وأخلاقية، وبعضها تهتم ببيان الأحكام الشرعية، بعضها تهتم بتركيز وتثبيت العقائد الدينية.
ومثل هذا الأمر، جعل عددا كبيرا يجدون ضآلتهم في هذه المآتم وما ذلك إلا لأجل حصول هذا التطوير في مآتم الحسين (ع). فالتطوير والتجديد ينفع المأتم، يثري المأتم، ونحن نعتقد أنه لا يزال المأتم والمنبر فيه مجال واسع للتطوير ويتحمل مقدارا أكبر من التجديد، وسيعطي نتائج أعظم من الفائدة للناس عموما لو تم تطويره. هذا أمر أول.
الأمر الآخر: يمكن أن نشير إلى أن هذه الفترة الزمنية التي مر بها المأتم الحسيني، والمنبر الحسيني، والتي تمتد إلى 14 قرنا من الزمان، تفيد إلى أن المآتم الحسينية ليست حاجة مؤقتة، وليست ترفا كماليا، حتى يأتي يوم من الأيام، وترتفع هذه الحاجة المؤقتة، أو هذا الترف الكمالي سوف ينسحب، أو أن قضية من القضايا سوف تأتي وتزيل المأتم والمنبر الحسيني عن موقعه في مجتمعات شيعة أهل البيت (ع). كلا.
فالمأتم مربوط بالحسين (ع)، والحسين قد أعطى إلهه كل ما كان يملك. فأعطى الله للحسين خلودا.
أعطى الذي ملكت يداه إلهه حتى الجنين، فداه كل جنين.
وبعز قعساء خاطب نفسه يا نفس لا تهني بنصر الدين.
إن كان دين محمد لم يستقم، إلا بقتلي، يا سيوف خذيني.
هذي رجالي في رضاك ذبائح ما بين منحور وبين طعيني.
أعطى كل شيء، فكان أن أعطى الله سبحانه وتعالى له في هذه الدنيا خلودا، وفي الأخرى منزلة رفيعة. فربط الدين بذكر الحسين (ع)؛ لأنه أحياه، ولأنه حفظه، ولأنه أعاده، ولأنه شفاه.

مرات العرض: 3415
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (3254) حجم الملف: unknown file size
تشغيل:
* لم يكن المأتم الحسيني والخطابة كالتي نراها اليوم ، وإنما تطور عبر مراحل زمنية حتى وصل إلى حالته المعاصرة ، مما يعني أنه يمكن أن يتطور فوق ما هو موجود .. ، وأن له قابلية أكبر في الخدمة الدينية. * إنه ينبغي أن ينظر إلى محاولات التطوير المختلفة التي تحدث مع المحافظة على ثوابته على أنها أمر طبيعي . يقسم آية الله شمس الدين رحمه الله، الأدوار التي مر بها المأتم الحسيني ، إلى ثلاثة أدوار ، ـ الدور الأول : من تاريخ الواقعة إلى سقوط بغداد على يد التتار ، ونهاية الحكم العباسي في زمان المستعصم العباسي . ـ الثاني : من سقوط بغداد في القرن السابع إلى بدايات العصر الحديث . ـ الثالث : من بدايات العصر الحديث إلى أيامنا هذه . * ويمكن لنا أن نقسم الدور الأول إلى قسمين : من تاريخ ما قبل الواقعة إلى نهاية الغيبة الصغرى ، ومنها إلى سقوط بغداد . وجهة التقسيم أن الفترة الأولى كانت تحت رعاية مباشرة من قبل المعصومين عليهم السلام . ** في الدور الأول : يمكن لنا ملاحظة أن هناك اهتماما استثنائيا بقضية الحسين ومأتمه بحيث يمكن القول أن أول راث ومقيم للمأتم كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) والامام علي (عليه السلام) فمن الأول ما نقله الطبراني في معجمه الكبير ج 23 : قصة أم سلمة ورسول الله عندما دخل الحسين ولم تشعر به ..إلى أن يقول : إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء ، ثم تناول من ترابها فأراه النبي (صلى الله عليه وآله) .. وفي أمالي الصدوق عن الباقر نفس الرواية بإضافة : فقال : فضعيها عندك فإذا صارت دما فقد قتل حبيبي . والإمام علي كما في مسند أحمد ج 1 : إن عبد الله بن نجي الحضرمي سار مع أمير المؤمنين فلما وصل إلى محاذاة نينوى صاح : اصبر يا أبا عبد الله ..بشط الفرات . فقلت وما ذاك قال دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونقل نفس الحديث السابق ، إلى أن قال : هل لك أن أشمك من تربته ، فقبض قبضة فأعطانيها فلم أن أملك عيني أن فاضتا ** وبعد الواقعة فقد قام أئمة أهل البيت أنفسهم بنقل قضاياها بصورة مؤثرة كما ينقل عن الامام السجاد ، وعن الباقر ، والصادق .. واستنشدوا الشعراء كالكميت وسفيان بن معصب ، والسيد الحميري ، ودعبل الخزاعي وغيرهم . كما استمعوا إلى المنشدين ، وكانوا يطلبون منهم أن يقرؤوا لهم بالرقة كما ينشدون في مجالسهم .. بل تشكلت تلك المجالس أيضا وصارت معروفة بدءا من أيام الصادق (عليه السلام) . بل هذه الفترة شهدت وجود أنواع من إحياء القضية الحسينية ، فقد كان هناك النادب والقاص والمنشد ، كما يظهر من رواية تتحدث عن زيارة شعبان ، وأن عند قبر الحسين كانت توجد هذه الطوائف . ** ما بعد الغيبة الصغرى ، كانت قد تشكلت دويلات شيعية : كالبويهيين في بغداد ، والحمدانيين في حلب ، والفاطميين في مصر . فقد نشط المأتم الحسيني بعد أن وجد رعاية رسمية ، وإعلانا عاما كما هو في عهد معز الدولة البويهي في حوالي 350 هـ . وبعد هذا التاريخ في زمان الفاطميين حيث عرف اسم الحسينية كما يتحدث عنها مير علي في كتابه مختصر تاريخ العرب ، يقول : كان من أفخم عمارة القاهرة في عهد الفاطميين : الحسينية وهو بناء فسيح الأرجاء تقام فيه ذكرى مقتل الحسين في كربلاء .. قبل أن يلغي كل ذلك صلاح الدين الأيوبي ويتخذ يوم عاشوراء يوم عيد وسرور كما في خطط المقريزي . وبالرغم من ضغط المتعصبين في هذه الفترة في بغداد ، حتى لقد أصدر أحد علمائهم وهو أبوقتيبة البربهاري فتوى بقتل النائحة ( خلب ) كما كان هناك منشدون معروفون مثل أبو القاسم الشطرنجي وأحمد المزوق . ومثل ذرة النائحة . وبالطبع كان الطابع العام في هذه الفترة هو ذكر الحادثة والشعر فيها .وبرز من شعراء الندبة الناشيء الصغير . الدور الثالث : ويبدأ من سقوط بغداد سنة 656 هـ : وفي هذه الفترة شهد شيئا من التراجع حيث كان الوضع في بداياته محكوما بيد التتار فلم يكن بالامكان أن يكون له نفس الشياع السابق ، ثم سيطر الأتراك على بغداد وعامة البلاد المسلمة ، وكانوا لا يشجعون هذا التوجه ، بل ربما شهدنا في أواخر عهد المستعصم قبل سقوط بغداد أيضا منع المأتم الحسيني . نعم في هذه الفترة تمت كتابة عدد من المقاتل التي تؤرخ قضية كربلاء على يد عدد من العلماء مثل ابن شهراشوب السروي حيث كتب مناقب آل أبي طالب وضمنه قضية كربلاء بشكل مفصل ، ومثير الأحزان لابن نما الحلي ، واللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس الحلي . وقد اعتمدت هذه الكتب على ما كان قد كتب سابقا ، مثل مقتل الحسين للأزدي ، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج ، ومقتل الحسين للخوارزمي ، والارشاد للشيخ المفيد . الدور الرابع : وهو من بدايات العصر الحديث :حيث توجهت الحوزة العلمية إلى أهمية المأتم الحسيني ، فكان أن نشأ جيل جديد من خطباء المنبر بالطريقة الحديثة ، على أثر توجيه المرجعية والعلماء المجددين ، فصارت هذه الطريقة المعهودة التي يتم فيها التوجيه والارشاد من خلال المنبر ، وتحول المنبر إلى مصدر مهم من مصادر الوعي الديني في المجتمع . وينقلون أن جمعية منتدى النشر التي أسسها المرحوم المظفر والسيد محمد تقي الحكيم كانت في صدد إنشاء كلية للخطابة الحسينية وهي وإن لم توفق لذلك ، إلا أنها أحدثت توجها جديدا في أهمية برمجة هذه الخطابة ، وكان من أبرز هذا النتاج الشيخ الوائلي رحمه الله . هذا الدور لاحظنا فيه من حيث الموضوع تفاعله مع قضايا الأمة والدين ، ففي فترات الاستعمار كان صوتا عاليا ضد المستعمرين ، وفي فترات البناء كان عاملا مساعدا من خلال التوجيهات التربوية والأخلاقية ، وبيان فكر أهل البيت ، وتحليل التاريخ الاسلامي بنحو صحيح ، وتفسير القرآن بشكل جيد ، بل تحول هذا المأتم إلى موسوعة فكرية متنوعة على اختلاف ألسنتها ومواضيعها . ومن حيث الاسلوب زادت الدقة التاريخية التي تتناول قضية كربلاء ، وزال عنها ما أضيف عليها من الزيادات غير الثابتة . ** ماذا نستفيد من هذا العرض التاريخي ؟ 1/ التطوير أغنى المنبر ، ولذلك ينبغي أن لا نخاف من التطوير فيه . 2/ المنبر والمأتم الحسيني ليس شيئا ترفيا أو كماليا أو أنه تعبير عن حاجة مؤقتة حتى ينظر إليه بأنه سينتهي أو سيزول .. لقد تعرض المأتم خلال القرون الثلاثة عشر التي مر بها إلى مختلف الحالات ولم يتغير إلا إلى الأفضل والأحسن . 3/ أن الذي أبقى هذه الوسيلة هو حسينية المنبر ، و( إن لقتل الحسين حرارة لا تبرد في نفوس المؤمنين أبدا ) كما روى في المستدرك عن الصادق أن النبي  قال ذلك بعد أن رأى الحسين مقبلا ، ثم قال : بأبي قتيل كل عبرة ، فقيل وما قتيل العبرة ؟ قال : لا يذكره مؤمن إلا بكى..

عاقبة قتلة الإمام الحسين(ع)
التشيع في مرحلته الجديدة (فكر جديد لواقع جديد)