المنبر الحسيني نظرة في النشأة والتطور
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 1/1/1434 هـ
تعريف:

المنبر الحسيني تاريخ النشأة والتطور

?تابة الأخت الفاضلة أمجاد عبد العال
روي عن سيدنا ومولانا أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق، صلوات الله وسلامه عليه، أنه قال: "أَحْيُوا أَمْرَنَا، رَحِمَ اللهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا"، صدق سيدنا ومولانا جعفر بن محمد.
حديثنا يتناول شيئا من التطور التاريخي للمأتم والمنبر الحسيني، ويجيب على بعض الأسئلة التي تتردد في الأذهان بشأن بعض مجالات التطوير المطلوبة. الذين تحدثوا في مراحل تطور المنبر الحسيني، فصلوا في هذه المراحل بأنحاء مختلفة، ولكننا سوف نوجز الحديث ضمن هذه النقاط التالية:
1/ نعتقد أن المرحلة الأولى التي مرت على المأتم والمنبر الحسيني كانت أشبه بالمأتم العفوي. مأتم عفوي بمعنى: أنه ينفعل بالحادثة. فهناك شخص ناظر يرثي الحسين نثرا أو شعرا، وهناك من يستمعون على غير تهيئة سابقة. وهذا نعتقده بدأ منذ أن استشهد الإمام الحسين (ع)، بالرغم من أن البكاء على الحسين سبق استشهاده بعقود، بل بقرون.
لكن في هذه المرحلة، استشهد الحسين (ع)، وكانت زينب (ع) من أوائل من رثى الحسين (ع)، من أخبرت عن مصيبته، من خاطبت الجيش، أو بعض أفراد الجيش بما جرى على الإمام (ع) في يوم عاشوراء. ولعل هذا أول إظهار لهذه المصيبة. فبعد خروج أهل البيت إلى كربلاء، وانتقالهم إلى الشام، بدأوا أيضا يتحدثون عن المظلومية، وعن المأساة، وعما جرى. وكانت الجماعات التي جاءت للتفرج أو للتطفل أو للاستطلاع تواجه من قبل أهل البيت (ع)، كزينب، وفاطمة بنت أمير المؤمنين، وفاطمة بنت الحسين، اللاتي خطبن في تلك الجموع بنقل شيء من المأساة، وشيء من المصيبة التي جرت في كربلاء، وهكذا الحال بالنسبة للإمام زين العابدين (ع).
المظهر الأكبر في هذا الإطار: كان في الشام، حيث تحول خطاب الإمام (ع) إلى ملحمة مأساوية قلبت المجلس وغيرت النفوس. ففي الشام أيضا عقدت هناك مجالس، وكلها ضمن دائرة المجلس العفوي، المنبر العفوي، يعني: ما كان هناك دعوة، لنفترض: أيها الناس سيقام مجلس لعزاء الحسين، هلموا إليه. وإنما كان في الغالب: يحصل اجتماع، ولا سيما بين النساء، تثار المأساة، يسيل الدمع، فيبدأ الحديث عن قضية كربلاء. وفي الرجوع إلى المدينة أيضا استمر الأمر بنفس المعدل. فكانت هذه المرحلة، هي الأولى بهذا الترتيب في نشوء ما نسميه اليوم: بمأتم الرثاء الحسيني أو المنبر الحسيني. واستمرت شيئا ما في زمان الإمام الباقر صلوات الله وسلامه عليه.
2/ أما عندما نأتي إلى أواخر أيام الإمام الباقر (ع) وأيام الإمام الصادق (ع) فصاعدا، نجد أنفسنا أمام تشكيل مؤسسة كاملة المعاني، نصطلح عليها اليوم باسم: المأتم أو المنبر الحسيني. ففي زمان الإمام الصادق (ع) بدأ الترتيب لمؤسسة كاملة للمنبر الحسيني. كيف؟
أي مؤسسة تحتاج إلى ثلاثة عناصر، تحتاج إلى دافع، ما هو الغرض؟ ما هي الغاية؟ وتحتاج أيضا إلى شكل وإطار، وتحتاج إلى مضمون.

وهذه كلها نراها حاصلة في توجيهات الإمام الصادق (ع) فيما يرتبط بأمر المنبر الحسيني. فالدافع الذي بينه الإمام، هو: مجموع الأحاديث الواعدة بالثواب والأجر الكبير لمن كان في هذا السلك. فمن بكى له الجنة، ومن أبكى له الجنة، ومن قال شعرا له من الثواب كذا، ومن أنشد شعرا له من الثواب كذا، ومن تباكى له كذا. فلكل الأطراف، من يستطيع أن ينشئ الشعر فله ثواب، ومن يستطيع أن ينشد الشعر فله ثواب، ومن يستطيع أن يبكي ويتأثر فله ثواب، والذي يستطيع أن يبكي الآخرين فله ثواب، والذي لا يستطيع أي شيء، لكنه يستطيع أن يتباكى ويجلس على هيئة الحزين، حتى لو لم تدمع عيناه، هذا أيضا له ثواب. هذه الأحاديث كلها تشكل دافعا لتأسيس مثل هذا المنبر؛ لأن الذي يأتي للمنبر: إما منشئ للشعر، أو منشد له، أو سامع، أو باك، أو مبك، أو متابك، وكل هؤلاء يحصلون على أجر ومثوبة. فهذا الدافع تكفلت به روايات كثيرة عن الإمام الصادق (ع).
الإطار والهيكل والشكل، فنحن أمام تعبير: مجالس معدة، يسأل الإمام الصادق (ع) الفضيل بن يسار، فيقول له: "تَجْلُسُونَ وَتَتَحَدَّثُونَ؟" وواضح أن كل الناس يجلسون ويتحدثون، سواء مسلمون، أو غير مسلمين، ولكن المقصود ضمن مجالس معينة ومحددة، وذات غرض معين، فهل تجلسون هذه المجالس، وتتحدثون فيها؟ يقول: "بَلَى"، فقال الإمام: "إِنِّي لَأُحِبُّ تِلْكَ المَجَالِسَ، أَحْيُوْا أَمْرَنَا، رَحِمَ اللهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا"، فنحن لو نتتبع كلمة الأمر في روايات أهل البيت، نراها تتحدث عن شيء مهم، هو: أصل المذهب، فمما يقال له: الأمر، الإمامة: "كَانَ عَلَى هَذَا الأَمْرُ"، الدفاع عن أهل البيت: "قُتِلَ عَلَى هَذَا الأَمْرُ".
فأتى الإمام الصادق وجعل إحياء المجلس، والحضور فيه، والتفاعل معه، مصداقا من مصاديق إحياء الأمر: "أَحْيُوْا أَمْرَنَا، رَحِمَ اللهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا". فهذا الشكل أيضا هيأه الإمام. والمضمون أيضا، هو: رثاء الإمام الحسين (ع): "ابْكِ جَدِّي الحُسَين"، "ارْثِ جَدِّي الحُسَين".
فأنت أمام توجيهات تتكفل بالدافع لهذه المؤسسة، وتتكفل بالهيكل والإطار، وتتكفل بالمضمون والموجود في داخلها. ونحن نستمر مع هذه في أزمنة الأئمة (ع). أي الأساس جعله الإمام الصادق (ع)، وأئمة أهل البيت الذين تأخروا عن الإمام الصادق، ساروا في نفس المشوار.

3/ وأكثر من قام به كان الإمام الرضا (ع)، ربما نظرا لكون الناحيتين السياسية والعامة كانت أفضل في عهدي الإمام الصادق والإمام الرضا من بقية الأزمنة. مع ذلك، نحن نلاحظ أن أكثر الروايات، وأكثر استقبالات الشعراء، كانت هنا. فالإمام الرضا كان يجلس في مثل هذه الأيام. يقول ابن شبيب، الريان بن شبيب: "دَخَلْتُ عَلَى سَيِّدِي الِإمَامَ الرِّضَا فَوَجَدْتُهُ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ جَالِسًا جَلْسَةَ الحَزِينِ الكَئِيبِ"، فكان يجلس للاستقبال. فإذا هذا شاعر، يقول له: ارث الحسين. وإذا ليس لشاعر، يبدأ الإمام يحدثه: "يَا بْنَ شَبِيب، إِنْ كُنْتَ بَاكِيًا فَابْكِ الحُسَينَ (ع)". فيجلس، يستقبل، يتصدى، شاعر أو منشد، يستقبل دعبل الخزاعي، يستقبل الريان بن شبيب، يستقبل آخرين، وهكذا.
فنحن نلاحظ أن في هذه الفترة الزمنية، قد تبلورت مؤسسة المأتم الحسيني والمنبر الحسيني بشكل واضح، بما وضعه الإمام الصادق أولا، وأكمله الإمام الرضا. فصرنا أمام منشدين أيضا، وليس فقط شعراء. فعندنا شاعر، ينشئ الشعر، وعندنا منشد، مثل الخطيب الآن، مثل الملا، حسب التعبير. ففي ذلك الوقت كان هذا موجود. فالشاعر: كالسيد الحميري، والمنشد، مثل: أبو هارون المكفوف، وجعفر بن عفان، وكان هناك نمط من القراءة.
لذلك - وهذا نشير إليه إن شاء الله آخر الأمر- لما جاء أبو هارون المكفوف، وهو منشد، أي بحسب تعبيرنا اليوم: ملا، راث، وقال له الإمام: "ارْثِ جَدِّي الحُسَين". فبدأ يقرأ قصيدة للسيد الحميري: امرر على جدث الحسين، وقل لأعظمه الزكية. فقال له الإمام: "لَا، لَيْسَ هَكَذَا، بَلْ كَمَا تُنْشِدُون". يعني بالرقة، بالتنغيم، لا أريدك أن تقرأ علي قراءة شاعر لقصيدة، وإنما أريدك أن تقرأ علي بنحو يحزِّنني، بنحو الرثاء المتعارف. فبدأ ينشده بذلك النحو.
فأصبح عندنا أيضا طبقة جديدة في زمان الإمام الصادق (ع)، هي: طبقة الراثين والمنشدين الذين ليسوا بالضرورة أن يكونوا شعراء، فقد يكون شاعرا، وقد لا يكون، وإنما يأخذ شعر غيره، وينشده، ويرثي به الحسين (ع).
4/ واستمر هذا طيلة فترات الأئمة (ع) -  إلى أيام الغيبة الكبرى التي هي مرحلة متغيرة. ففي مرحلة الغيبة الكبرى، يعني ما بعد سنة 329، حصل متغير جديد، أثر تأثيرا إيجابيا في مؤسسة المأتم الحسيني والمنبر الحسيني، وهو: وجود البويهيين في بغداد، ووجود الفاطميين في مصر. فطيلة هذه الفترة الماضية، والمنبر والمأتم الحسيني كان يعيش على الحاشية وعلى الهامش، وكان موقف الخلفاء عادة موقفا غير جيد.
فمثلا، في زمان المتوكل العباسي الذي منع الناس من زيارة قبر الحسين، كان موقفه – وهذا الطبيعي - من المأتم والمنبر الحسيني موقفا شديدا، فلا بد أن يخنس المنبر قليلا. أما الآن، فنحن في مرحلة جديدة، من بعد زمان الغيبة الكبرى، ففي بغداد جاء البويهيون، والبويهيون: أسرة ديلمية، سيطرت على بغداد، وهي تنتهج منهج أهل البيت (ع). أي هم - مذهبيا - من الشيعة، لكن هناك خلاف حول: هل أنهم إماميون، أو أنهم زيديون؟ والصحيح كما نعتقده أنهم إماميون. فهؤلاء لما جاؤوا وسيطروا جعلوا الحكومة بويهية شيعية. صحيح أنهم كانوا منفتحين على المذاهب الأخر إلى حد أن قاضي القضاة - وهذا تحدثنا عنه في إحدى السنوات - كان عبد الجبار المعتزلي، وهو مخالف للمذهب، ومخالف للحكومة، فالحكومة ذلك الوقت بويهية شيعية. غير أن قاضي القضاة، المفتي الأكبر فيها، من؟ القاضي عبد الجبار، سني المذهب، معتزلي العقيدة. لكن التوجه العام للدولة كان توجها شيعيا، وهذا أثر تأثيرا إيجابيا على المأتم الحسيني.
فكانت الحكومة - بحسب التعبير - والناس يقبلون بموضوع المنبر. فنشط المنبر الحسيني وتمدد كثيرا. وفي هذه الفترة أيضا وجدنا قصائد رائعة مثل: همزية الشريف الرضي
كربلاء، لا زلت كربا وبلا
ما لقي عندك آل المصطفى
وهي تعد من غرر الشعر وعيونه.
فإلى حد أن البويهيين في إظهارهم لشعائر المذهب، وتظاهرهم بقضية الحسين، أعلنوا يوم عاشوراء عطلة في كل مكان، وعلقوا السواد، وعقدوا المجالس والمآتم، واجتمع الناس والعلماء في تلك المجالس والمآتم. يعني: حالة من حالات الظهور العام للمأتم والمنبر الحسيني.
في الطرف الآخر، في مصر أيضا، جاء الفاطميون في نفس الفترة. والفاطميون ليسوا إماميين، ولكن الإمام الحسين نقطة اشتراك بين شيعة أهل البيت عموما. إذا كان هناك اختلافات وافتراقات ومذاهب، إنما تنشأ من بعد فترة الإمام الحسين (ع). فأقدم الفئات الزيدية، والزيدية بعد الإمام علي بن الحسين. وعليه، يكون الإمام الحسين (ع) نقطة مشتركة بين جميع الشيعة.
أما الفاطميون فقد أعلنوا أيضا مراسم العزاء والمأتم والرثاء، وساعدهم في ذلك وجود مراقد لأهل البيت (ع) في القاهرة: مسجد مشهد رأس الحسين، ومشهد السيدة زينب، ومشهد السيدة نفسية، وبعض آخرين ممن كانوا ينسبون إلى أهل البيت (ع). فهذا خدم الموضوع الحسيني في ذلك المكان.
5/ استمر هذا الأمر، قريب من 100 سنة، 150 سنة، إلى أن جاءت عاصفة الأتراك السلاجقة. والسلجوقيون احتلوا بغداد، وكانوا متعصبين مذهبيا، وكان بعضهم حنفي المذهب، وبعضهم حنبلي المذهب، هذا من الناحية السياسية. وهؤلاء جاؤوا على أنقاض البويهيين؛ لذلك أرادوا أن يزيلوا آثارهم، ومن آثارهم هذه الشعائر فأرادوا محوها، هذا من جهة. من جهة أخرى، الوضع الاجتماعي الذي جاؤوا فيه، إذا كانوا حنابلة. والحنابلة، خصوصا في أزمنة تاريخية سابقة، كانوا يعتقدون أن الله قد كلفهم هم بأن يزيلوا كل ما يعتقدونه بدعة. أي الله أعطاهم تخويلا وتفويضا بأنه لهم وعليهم ولا بد منهم أن يزيلوا البدع بأيديهم. أي بيدك أنت يا من تنتهج المنهج الحنبلي، هذا الفكر - لا أقل – كان في السابق موجودا.
ولذلك لا يكتفي هذا الإنسان بأن يقول: هذا ضآل، وأنا أوضح فكرتي، وذاك يوضح فكرته. لا. بل يأطرك فيما يعتقد على الحق أطرا، فلا بد أن يلزمك بالحق، ويجعلك تمشي بالطريقة التي يعتقدها حقا. فما تعتقد أنت سنة، وهو يعتقده بدعة، يمنعك منه، ويقاومك فيه. وهذا واحد من أسباب المشاكل والاصطدامات التي نراها اليوم في كثير من مناطق العالم الإسلامي. فأنت تعتقد أن هذا بدعة، وأنا أعتقد أن هذا سنة! أنت تعتقد أن هذا باطل، وأنا أعتقد أن هذا هو عين الحق، ومحض الحق. فإذا أنت لا تعمل فيه، فابد نظرك حوله، لا أحد يقول لك لا تبدي نظرك، أما أن تأتي وتمنع غيرك منه، بقوة اليد وأحيانا بقوة السلطان، فهذا ما أعطاك أحد إجازة في ذلك.
ونحن لاحظنا أنه بالعكس، في ذلك الزمان، حدث هكذا، إلى حد أن القاضي التنوخي، في كتاب: مشوار المحاضرة، يقول: كان هناك، في تلك الأزمنة، جماعة من الخطباء، صعدت المنابر، وعلا صيتها، يقول كان منهم: شخص يسمى الناشئ، وشخص آخر يسمى المزوق. أي خطيب شهير، مثلما عندنا الآن في عالم التشيع خطباء مشهورون، ذاك الوقت أيضا كان عندهم. وأيضا هناك: نائحة، راثية، اسمها خُلب، أو خِلب. فهذه كانت تذهب إلى مجالس النساء، ويتحلق حولها الكثير من النساء، وتحصل على جمهور عظيم منهن.
فواحد من زعماء هؤلاء الحنابلة في ذلك الوقت، رأى أن هذه بدعة، أي أصل الرثاء عندهم بدعة، فالنياحة على الميت بدعة، والتي تنوح عليه امرأة أيضا، فهذه أشد وأشد. فتكلم ضدها، وأفتى بقتلها، وأن هذه دمها مهدور. فهذا الكاتب يقول: بعد مدة، وجدت ميتة. هل هم قتلوها؟ أو ماتت هكذا؟ لكن بالتالي ذهبت في ضمن هذه الأجواء.
فإذن، مر المأتم والمنبر في فترة ضيقة نسبيا، ما لبثت أن تصاعدت من جديد، فالسلاجقة انتهوا، وأتوا المغول، وما كانوا يتعرضون إلى هذه المسائل، إلى تفاصيل المسائل. فالنساء حصلن على فترة، خصوصا بعد الدمار الذي حدث والقتل الذي وقع وأصبح يذكي في الإنسان العاطفة، فيجدوا الناس في مصيبة الحسين (ع) متنفسا، وملجأ، وظهرا، يعينهم في مصائبهم.
6/ ولكن التطور الأكبر الذي حدث، لما جاء الصفويون إلى العراق، وأخذوا العراق، بعد إيران أيضا. الصفويون، أسرة حكمت ايران ثم العراق، هم أبناء صفي الدين الأردبيلي، الذي ما كان أصلا من الشيعة، ولكنه تشيع فتشيع أبناءه، وسيطروا بالتدريج على بغداد وعلى فارس، وانتخبوا هذا المذهب باعتباره المذهب الرئيسي.
ففي هذه الفترة، أيام الصفويين، باعتبار أنه قد أصبح العراق تحت يدهم، وإيران كذلك. فأظهروا المذهب، وانتعش من جديد أمر المأتم والشعائر الحسينية بشكل عام. واستمر هذا إلى المرحلة التي نحن فيها، قبل حوالي 150 سنة.
7/ قبل حوالي 150 سنة، حدثت نهضة، بدأت في العراق، في النجف الأشرف، لما برز بعض الخطباء الذين غيروا من هيكل المنبر تغييرا تاما. ونخص بالذكر منهم: المرحوم الشيخ كاظم السبتي،وهو عالم كبير، فقيه من الفقهاء توجه إلى الخطابة، ولم يكن أمر الخطابة موجودا كثيرا بين العلماء الكبار. فقد كان الذي يصعد المنبر ويرقاه، يُنظر إليه على أنه شخص يتقن الصوت فقط، لا أن العالم لا بد أن يذهب في هذا المجال.
لكن هذا الفقيه، العالم الكبير، دخل هذا الميدان، وغير النمط، أي ما كان في السابق هذا النمط: من أن الخطيب يبدأ بآية ويفسرها، أو خطبة للإمام ويفسرها، أو قول للمعصوم ويتحدث عنه، أو موضوع عقائدي، أو موضوع أخلاقي، أو موضوع ثقافي، لا. كان كله ضمن استذكار الفاجعة، وقراءة بعض الأشعار.
فهذا العالم الجليل رضوان الله تعالى عليه في حوالي سنة 1310، ، بدأ ينتج شيئا جديدا من النمط الخطابي والمنبر الحسيني، والذين جاؤوا من بعده بدأوا ينتهجون نفس المنهج. فتغير تغيرا كبيرا بعدما كان محصورا في إطار نقل الواقعة وترداد الشعر، وتحزين القلب. فقد بقي هذا، ولكن في الأخير، وبمقدار معين، ولكن في الهيكل العام، أصبح هيكل ذا بعد ثقافي ومعرفي: إما أخلاق، إما عقيدة، إما ثقافة، إما تحليل تاريخ، إما غير ذلك. وبالتالي نحن في هذه المرحلة التي هي من بركات هذا الشيخ الجليل، رضوان الله تعالى عليه.

أسئلة حول المنبر الحسيني ودوره وخطبائه
وهذا مرور إجمالي على الحالة التي تطور إليها ومنها المأتم والمنبر الحسيني. وهناك بعض الأسئلة التي ربما تتردد في أذهان بعض الناس. من الأسئلة مثلا: البعض يقول: لماذا لا يكون هناك جهة تحدد من الذي يصعد المنبر؟ أي لماذا المنبر الحسيني شرعة لكل وارد. ففي الطب مثلا، لا يمارس الطبابة إلا من لديه شهادة، والهندسة كذلك. فلماذا المنبر الحسيني والتوجه إلى هذه القضية لا يمر عبر جهة تعين صلاحية هذا الإنسان وعدم صلاحيته. هذا من الأسئلة.
من الأسئلة مثلا: لماذا نجد بعض المنابر يكون محورها العام، من أولها إلى آخرها، ضمن دائرة المصيبة والرثاء وما شابه ذلك؟ فالناس يعرفون المأساة، يعرفون القضية، فلماذا يقال: هكذا؟ وعلى هذا المعدل من الأسئلة، نحن نجيب على بعضها.
أما بالنسبة إلى السؤال الأول، لماذا لا تكون هناك جهة تفلتر وتعين من يصعد المنبر؟ أنا أعتقد أن من يطرح هذا السؤال عادة هو مخلص في نيته، ويقول لك: المنبر له قداسة، وله دور، وله أهمية، فينبغي أن لا يصعد إليه إلا من يكون مؤهلا، وهذا الدافع، وهذه النية، نية طيبة. ولكن تعيين جهة تقوم بهذا الأمر، أولا غير ممكن، وثانيا: قد لا يكون صالحا.
أما غير ممكن، فلأن الحالة الشيعية كأنها أخذت مبدأ الحرية على مصراعيه. ولا يوجد هناك جهة تُستأذن، يعني مثلا، أنا إذا رأيت في نفسي قدرة على الخطابة، لن آتي لكي أستأذن منك. وأنت إذا عرفت في نفسك قابلية الإبكاء للآخرين، وأقبل عليك الناس، لن تأتي لكي تستأذن مني. فليس هناك جهة، يعتقد الناس أنه لا بد أن يستأذنوا منها. ولا المرجعية تتصدى لهذا الأمر، ولا يوجد هناك هيئات محلية، ولا يوجد هناك مؤسسات قادرة على المنع والسماح.
بل ليس معلوما أن هذا التوجه توجه صحيح. فنحن نخشى أن تتكرر تجربة المنابر الأخرى في المذاهب الإسلامية الأخرى التي بدأت ضمن هذا الإطار: أنه لا بد من تقنين، لا بد من ترتيب، لا بد من شهادة، لا بد من كذا، ثم أصبحت بيد دول معينة، وبيد حكومات، وضمن اتجاه خاص. ولذلك أنت من النادر أن تجد خطيبا ضمن هذا الإطار الذي هو مقنن ومدستر لا يخرج عن النص.
ثم افرض أنه في هذه الفترة، وجدنا لنا مؤسسة، أو وجدنا لنا مرجعية، أو وجدنا لنا جهة مخلصة، وفاهمة، وعارفة، وفعلت لنا هذا الأمر، فماذا يدريك عما بعد؟! فهل نترك الأمر هكذا! الجواب على هذا: الحكم هو الناس. فنحن نعتقد أن فلتر الجمهور الواعي هو أفضل شيء، ونعتقد أن الإنسان غير مجبور أن يحضر لا في هذا المنبر، ولا في ذاك المنبر، صحيح أم لا. فالذي يأتي بي إما دافع ديني، فأنا إنسان أريد أحصل على ثواب، ولا يفرق عندي هذا المنبر أو ذاك. أو الذي يأتي به ميزة في الخطيب، فيقول لك: هذا الخطيب، صوته أجمل، وأنا أبحث عن الصوت الأجمل، أو يقول لك: هذا الخطيب يبكي أكثر، وأنا أحتاج إلى أن أبكي، أو ذاك الخطيب، عنده ثقافة أكثر، وأنا أبحث عن الثقافة. أو ذاك الخطيب، لنفترض يتعرض لمواضيع تتصل بالمجتمع وأنا أبحث عنها. فهذه المساحة من الاختيار شيء طيب. ولذلك هي يمكن أن تعتبر فلترا مناسبا. فلهذا الخطيب جمهوره، ولذاك الخطيب جمهوره. ولهذا الاتجاه جماعته وذاك الاتجاه جماعته. وهذا التنوع خير وبركة. فلا ينبغي أن يُظن أن هذا الشيء غير حسن. ولا يُظن أن توحيد الأشياء قسرا أمر حسن.
فأحيانا، يسأل إنسان، بدل أن يكون عندنا 50 منبرا في البلدة الفلانية، لماذا لا يكون مجلس مركزي واحد، وخطيب من الدرجة الأولى. هكذا لا يحضره الناس، فهذا يخالف حريتهم، فأنت تقبل بهذا الخطيب، لكن ذاك لا يقبل به. أنت ترتاح لطريقة هذا، وذاك لا يرتاح إلى طريقته.
فالتوحيد القسري ليس شيئا صحيحا. إنما إبقاء الأمر ضمن انتخاب الناس، هذا شيء حسن، وهذا يفتح نظرنا على الأمر الثاني: أن المساحة الحسينية واسعة جدا. فالذي يريد رثاء، ويريد بكاء، ويريد دمعة، ويريد عبرة، الحمد لله المجتمع الشيعي يوجد فيه خير كثير في هذه الجهة، فعندنا راثون، ومنشدون، وخطباء في هذا الجانب، أصواتهم نقية، وحفظهم جيد. وقسم من الناس يحتاجون إلى هذا المعنى، فلماذا تمنعهم؟!
وعندنا قسم آخر، يقول لك: الموضوع الثقافي بالنسبة إلي هو الأهم، فيذهب هذا إلى مكانه، وذاك يذهب إلى مكانه الآخر. وينبغي أن لا ينظر إلى هذا الأمر، على أنه حالة سلبية، فينادى: تعال نوحد الناس، على خطيب واحد، وعلى مجلس واحد، وعلى مواضيع واحدة! فهذا يرجعنا إلى طريقة الحكومات نفسها. الحكومات تقول: هذا فقط الخطيب ولا غيره، وهذا المسجد وليس أي مسجد، وهذا الموضوع وليس أي موضوع! وهذا هو الذي جعل الحالة الثقافية عندنا تتراجع في أمتنا الإسلامية.
لذلك نحن نعتقد أن هذه الحالة الموجودة عندنا، في الجملة، لا أريد أن أقول كل شيء فيها حسن، لا. بالإجمال، بما هي مساحة حرة، تتيح للطاقات المختلفة أن تبرز، وتفسح للإنسان مجالا أوسع لكي يختار. وهذه حالة جيدة، فلا داع أن نقسر الناس، وأن نجبرهم، وأن نوحدهم بالقوة، لا على مجلس، ولا على خطيب، ولا على موضوع.
وبالتالي الناس نعتقد أهن عندهم من الوعي والمعرفة المقدار الكافي، إذا وجدوا شيئا مناسبا سوف يأتون إليه، وهذا هو الحاصل غالبا الآن في مجتمعنا.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يديم علينا نعمة ولاء الحسين، وأن يبقي هذه المراسم والشعائر التي أكد عليها أئمة أهل البيت (ع) تأكيدا عاليا، ودفعوا إليها بكل ما يستطيعون من جهد. فجلسوا في مواسم المحرم، وحثوا أتباعهم على ذلك. بل نحن نجد ليس فقط أتباع أهل البيت، حتى غير أتباع أهل البيت عندهم هذا الأمر.
فالكندي الشافعي، ينقل في كتبه، وهو شافعي المذهب، عن بعض شعراء الشافعية، قولهم: إذا ذكر الحسين فأي عين تصون دموعها صون احتشام. أي إذا جاء ذكر الحسين فأي العيون التي تتوقف، هذا مثلما قال شاعرنا: أي المحاجر لا تبكي عليك دما.
إذا ذكر الحسين فأي عين تصون دموعها صون احتشام
بكته الأنبياء وليس بدعا أن يبكي الكرام على الكرام
لذلك يأتي مثل أبي هارون المكفوف إلى الإمام، فيقول في مثل هذه الأيام: دخلت عليه، فإذا به جالس جلسة الكئيب الحزين. تصور بعين قلبك، أنه في مثل هذه الليلة، سيدك ومولاك جعفر بن محمد جالسا في بيته، واضعا رأسه بين يديه، جلسة الحزين الكئيب، تسيل دموعه على خده لمصاب الحسين (ع).
فلما أقبلت عليه – يقول أبو هارون – قال لي: "أَنْشِدْنِي يَا أَبَا هَارُون فِي جَدِّي الحُسَين"، فبدأت أنشده:
امرر على جدث الحسين وقل لأعظمه الزكية
فقال: "لَا، يَا أَبَا هَارُون، مَا هَكَذَا، لَكِنْ كَمَا تُنْشِدُون"، يعني بالرقة، فأنا أريد أن أبكي، أنشدني بتنغيم حتى أبكي، فرفع صوته في ذلك الوقت.
امرر على جدث الحسين وقل لأعظمه الزكية

مرات العرض: 3439
المدة: 00:53:23
الاستماع والتنزيل: عدد مرات التنزيل: (2591) حجم الملف: 18.3 MB

ممهدات كارثة سنة 61 هـ
الشعائر إعلان هوية وإعلام دعوة ..