القرآن في نهج البلاغة

محرر الموقع
( واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والدليل الذي لا يظل والمحدث الذي لا يكذب وأنه ليس بعد القرآن من فاقه ولا قبله من غنى فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم فإن فيه الشفاء من الداء الأكبر الكفر والنفاق والغي والضلال وأنه ما جالس أحد هذا القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان زيادة في هدى أو نقصان من عمى واعلموا أنه شافع مشفع وماحل مصدق من شفع له شفع فيه ومن محله صدق عليه وهو كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ) . يتفق المسلمون مع اختلاف طوائفهم ـ إلا من شذ منها ـ على قضية أساسية هي أن القرآن الكريم الموجود بين أيدينا هو الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله من غير زيادة ولا نقيصة ولذلك فهو حجة عليهم في الائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه . وتتكلم النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام ، عن القرآن باعتباره وحدة واحدة معروفة وتشير إليه على هذا الأساس ، وهذا مما يؤكد المعنى السابق ، إذ لا معنى لأن يشار إليه بـ ( هذا القرآن ) مع كونه منقوصا أو مختلفا من مكان إلى آخر ، ومن زمان إلى زمان .. وفي الكلمات السابقة عن أمير المؤمنين عليه السلام ، تصريح بهذا المعنى ، فهو يوجه الناس إلى هذا القرآن ويقول ( اعلموا أن هذا القرآن ) ولو كان مختلفا أو متفاوتا بينهم لما كان معنى أن يشير إليه بإشارة واحدة .. كذلك يكمل كلامه بالقول بأنه هو الناصح الذي لا يغش والدليل الذي لا يظل والمحدث الذي لا يكذب ، ومن المعلوم أن الناقص عن مقداره لا بد أن يكون مغشوشا وغاشا بالتالي ، وهكذا لو كان ناقصا أو زائدا فإنه لا يمكن أن يكون دليلا ، فإن نقص حرف واحد أحيانا أو نقطة من حرف في كلا م يغير المعنى ويقلبه إلى عكس المراد منه . وعلى هذا المعنى : وهو صيانة القرآن من الزيادة والنقصان في التنزيل ، استقرت عقيدة المسلمين ، وأجمعوا عليه . نعم ربما ذهب كاتب من السنة أو الشيعة إلى دعوى خالف فيها جمهور كل من الطائفتين وقام على بطلانها البرهان العقلي وقال بأن القرآن الذي بين أيدينا ليس هو نفسه الذي نزل على رسول الله وإنما تمت الزيادة فيه أو النقيصة منه ! غير أن هذه الدعوى ساقطة جزما عند الفريقين ، ومسبوقة بالاجماع وملحوقة به على خلافها . فقد ادعى كاتب مصري في كتاب سماه الفرقان أن القرآن الكريم الموجود بين أيدينا ينقص عما نزل على رسول الله واستدل على دعواه هذه ببعض الأحاديث الموجودة في كتب الحديث ، واستفاد منها أن القرآن ـ بحسب تلك الروايات ـ ينقص آيات وربما سورا. الكتاب الذي أثار ضجة من المعارضة له ، وتم جمع نسخه ومصادرتها من المكتبات ، لم يستطع التأثير في الوسط العام المسلم ولم يغير رأيه المتفق على عدم زيادة أو نقص القرآن . في الطرف الشيعي أيضا يوجد كتاب يعرف بـ ( فصل الخطاب ) وهو للمحدث النوري الطبرسي الذي نقل فيه عددا من الروايات مفادها أن القرآن الكريم فيه زيادة و نقيصة . غير أن الكتاب الذي تعرض لانتقاد واسع بين العلماء ، سببه أن أكثر الروايات التي نقلها هذا المحدث في كتابه تنتهي عند التحقيق لرجل معروف بالوضع هو أحمد ابن محمد ابن سيار وربما عبر عنه بالسياري يصفونه بالأوصاف التالية : كذاب يضع الأحاديث و غال وهذه الصفات عندما توجد في ناقل الحديث تسقط حديثه عن الاعتبار. فضلا عن أن متن قسم من الروايات غير ظاهر في تحريف اللفظ وزيادته أو نقيصته وإنما ظاهر في تغيير التأويل وليس التنزيل وقيل أيضا كما نقل عن المحقق الطهراني آقا بزرك أن نفس الكاتب وهو المحدث النوري تراجع عن مضمون هذا الكتاب في آخر حياته ، وسواء تم ذلك أو لم يتم فإن هذه الدعوى مرفوضة أيضا كائنا من كان قائلها ! بل حتى لو فرضنا وجود روايات صحيحة ومنقولة بسند معتبر وأنها تدل على وجود نقص أو زيادة في القرآن ، فإنه لا يُعتنى بتلك الروايات ولا تقبل .وذلك لأن غاية ما تفيد تلك الروايات الظن بحصول هذه الزيادة أو النقيصة ، فإذا قام اليقين والقطع على خلاف مفادها وهي ظنية فلا يمكن الاعتناء بها . وقد قام الدليل القطعي من القرآن صراحة على حفظ القرآن وأنه غير خاضع للتحريف والتأويل بنص صريح الآية المباركة (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) وقام الدليل العقلي أيضا على أن القرآن الكريم لو كان فيه زيادة أو نقيصة لسقطت حجيته والحال أن مفاد ما تواتر من الرسول وأهل البيت بل صريح القرآن أن القرآن هو حبل ممدود بين السماء والأرض إلى أن تقوم الساعة ..مفاد هذه الروايات حجية القرآن وإذا قلنا بأن القرآن فيه زيادة أو نقيصة هذا يعني بطلان حجية القرآن .ومعنى ذلك نهاية الدين . فإذا كانت معتبرة فهي ظنية وما هو ظني لا يقاوم القطعي ، فكيف والحال أنها روايات غير معتبرة السند ؟أصلا مفاد روايات التمسك بالقرآن والعمل بالقرآن مفادها التزاما أن القرآن الكريم كاملا ليس منقوص . كيف تحدث الإمام عن القرآن ؟ تحدث أمير المؤمنين عن القرآن كثيرا ، ولكن في حدود كلماته عليه السلام في نهج البلاغة يمكن أن ننظر إلى التالي : 1/ ماذا في القرآن ؟ ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم عنه . ألا إن فيه علم ما يأتي ، والحديث عن الماضي ، ودواء دائكم ، ونظم ما بينكم . يوجه أمير المؤمنين  المسلمين إلى استنطاق القرآن عبر التدبر في آياته ، واستكشاف ما فيه من الكنوز .. ثم يخبر عن العناوين العامة التي يمكن للانسان أن يستفيد من القرآن نظرية فيها ورؤية حولها : * علم ما يأتي : يعتبر الحديث عن المستقبل والتخطيط له من أهم المعارف التي تصنع الحضارة الانسانية ، وذلك أن تقدم البشر مرهون بالتخطيط ولا يأتي صدفة أو استرسالا ، وحين يفكر الفرد أو المجتمع بالتخطيط لحاضره ويقتصر على ذلك فإنه إنما يدير واقعه فقط من دون أن يحقق شيئا لمستقبله . أما حين يفكر في المستقبل ويخطط له فإن ذلك مقدمة بناء حضارته وتقدمه .. يتحدث الإمام عليه السلام عن أن في القرآن علم ما يأتي .. بالطبع لا بد أن نشير هنا إلى أن ما يقال من وجود العلوم في القرآن ، لا يعني ذلك أن القرآن مدرسة في تفاصيل العلوم والمعارف وإنما يعطي للمتعلم قواعد متى استعملها في حياته تقدم ، ومتى مارسها تفوق . وإلا فلن تجد في القرآن معادلات رياضية مثلا ، أو تفاصيل القضايا الكيميائية وهكذا . والله سبحانه عندما يتحدث عن القرآن وإنه ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) لا يقصد من ذلك أن التفاصيل الجزئية للحياة موجودة فيه ، وإنما القواعد والأصول العامة لادارة الحياة . * الحديث عن الماضي : يسرد القرآن الكريم قصصا كثيرا من ماضي المجتمعات الانسانية بدءا من الأسرة الأولى في الخلق ( آدم وحواء وابناهما ) ثم يتحدث بشكل أساس على المجتمع الاسرائيلي ، وعن أنبيائهم ، وصفات ذلك المجتمع وكيف كانت المواجهة بين الأنبياء وبين أعدائهم .. وهكذا تحدث أيضا عن المسلمين في حروبهم وغزواتهم ، تحدث عنهم في مكة وتحدث عن مواقفهم في المدينة وعن علاقاتهم مع النبي ، وكيفية تطبيقهم للأحكام الالهية ..وهكذا . كما تحدث عن المجتمعات تحدث عن الأفراد ودورهم ، فهذه امرأة فرعون وتلك مريم ابنة عمران ، وذاك الرجل الذي يكتم إيمانه ، والآخر الذي انسلخ من آيات الله فأتبعه الشيطان ، وهكذا تطول القائمة.. ولم يكن القرآن الكريم في كل ذلك عابثا ولا قاصدا للتسلية ، وإنما كان ذلك الحديث عن الماضي يأتي ضمن غرض تربوي وإيماني ، يعود بالنفع على النبي وعلى أصحابه ، بل على من كل يقرأ القرآن ( وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) . وكما أن النموذج الرسالي يعطي عبرة ويثبت النفس . فإن النموذج الخاطئ والمنحرف أيضا يقوم بتحذير الناس من الوصول إلى موقعه ، فهذا بلعم بن باعوراء أوتي علما كثيرا وبينات ولكن : ( َوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) . * فيه دواء دائكم : إن الأدواء والمشاكل النفسية والاجتماعية متشابهة إلى حد كبير ، والذي يعرض على الغير يعرض علينا ، ولعل هذا معنى ما روي عن النبي من أن هذه الأمة لتتبعن أثر بني اسرائيل حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل .. يعني ستتورط في نفس المشاكل وسيمر عليها نفس التحديات التي مر بها بنو اسرائيل . بل لا بد أن يكون كذلك ، فيه العلاجات المناسبة لهذه الأمة ، فإن معنى أن يكون دليلا وناصحا ومحدثا هو أن يجيب على التساؤلات القائمة في هذا الشأن . * ونظم ما بينكم : إذ يحتاج المجتمع إلى أنظمة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة ، وهذا تتكفل به التشريعات الموجودة في القرآن . ولا يعني ذلك كما سبق القول منا بأن معناه أن يضع القرآن دستورا تفصيليا يحتوي على كل المواد المطلوبة في كل مجال وإنما المقصود هو أنه يضع قيما عامة يستطيع المقننون والباحثون أن يستنبطوا من خلالها مئات الأحكام في كل مجال : إن مثل ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) في تكريس الاستقلال وعدم الخضوع والتبعية السياسية ، ومثل ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) و ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) في تنظيم الحياة الأسرية والزوجية ، ومثل ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) و( لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) في تنظيم الحياة المالية والاقتصادية .. يمكن للفقيه والمقنن أن يستنبط منها ما يحتاج من نظم وقوانين لإدارة حياة المجتمع . 2/ مرجعية القرآن في أحكام القضاة : لا شك أن الأصول العامة التي يبينها القرآن والقيم ، ثابتة ودائمة وهذا معنى أن يكون خاتم الكتب السماوية ولذا فاننا نجد أن القرآن الكريم قد ذكر الأطر العامة والقيم الرئيسية أكثر مما ذكر التفاصيل . نعم قد تختلف تطبيقاتها ومصاديقها من وقت لآخر ومن شخص لشخص بحسب تغير الظروف الموضوعية ، فإن تفاصيل العشرة بالمعروف في زمن هي غير تفاصيلها في زمن آخر وهكذا ، وإن عقود زماننا التجارية تختلف عن عقود صدر الاسلام ، وهكذا . غير أن ذلك لا يعني أن يكون قاضيان وحاكمان في وقت واحد وبلد واحد ، وترد عليهم قضية واحدة فيحكمان فيها بحكم مختلف ، لأن ذلك يعني إما أنهما يعتمدان على مصدرين مختلفين ، والفرض أنهما يعتمدان القرآن وليس فيه اختلاف أو تباين وإما أنهما لا يعملان بطريقة واحدة تمكنها من استكشاف الحكم الصحيح . لقد ذم أمير المؤمنين هذا الاختلاف بقوله : ( ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا!! وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد . أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه . أم نهاهم عنه فعصوه . أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه . أم كانوا شركاء له . فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى أم أنزل الله سبحانه دينا تاما فقصر الرسول صلى الله عليه وآله عن تبليغه وأدائه والله سبحانه يقول ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) فيه تبيان كل شيء وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) . وإن القرآن ظاهره أنيق . وباطنه عميق . لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلا به ) الموقف تجاه القرآن : (وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث ، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب ، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور . وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص ) . يؤكد أمير المؤمنين  على عدة قضايا في التعامل مع القرآن تبدأ : أولا : بتعلم القرآن : تعلم القرآن يبدأ من إتقان لفظه إعرابه ، ولهذا أثر كبير في فهمه ، فإن من لا يعرب القرآن بحسب قواعد اللغة العربية لا يستطيع أن يفهم معانيه بل ربما وقع في مخالفات عقدية .. لقد ذكروا أن مما جعل أمير المؤمنين يلقن أبا الأسود الدؤلي قواعد النحو أن أحدهم قرأ بمحضره الآية الثالثة من سورة التوبة ( وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لكنه بدل أن يقرأ (وَرَسُولُهُ )بالرفع حيث أنها في موضع مبتدأ بمعنى ورسوله بريء ، بدل ذلك قرأها بالجر ( ورسولِه ) ومن الواضح أن المعنى مع الاعتقاد به يكون من الكفر حيث يعني أن الله بري من المشركين ومن رسوله أيضا !! وهكذا عندما يقرأ بعضهم (َ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) وفيها كما هو واضح تم تأخير الفاعل وهو العلماء عن المفعول به وهو لفظ الجلالة ، ومعناها يخشى العلماء الله ، بينما قد يقرؤها غير العارف باللغة وإعرابها برفع لفظ الجلالة ونصب العلماء فينقلب المعنى ويكون بمعنى أن الله يخاف من العلماء !! فلا بد من تعلم القرآن في هذه المرحلة ، ولقد أوجب العلماء تعلم السور التي تقرأ في الصلاة كالفاتحة وجوبا عينيا على كل مكلف بالغ ولا يجوز له أن يقصر في ذلك وإلا كان مأثوما . وينبغي التأكيد على هذه الجهة والبذل فيها ، بتأسيس لجان تعليم القرآن وتصحيح قراءة الناس بتعليمهم إعراب آياته ، ولقد كان هذا الأمر في السابق من جملة مسؤوليات الوالدين أنهم كانوا يدخلون أبناءهم الكتاتيب التي تعلم القرآن ، وكان الشاب في الغالب بعد هذه المرحلة يكون متقنا لقراءة القرآن بخلاف ما نجده اليوم ، وإن كنا نلاحظ نهضة جيدة في هذا الاتجاه عبر اللجان الأهلية التي تهدف إلى نشر ثقافة تعلم القرآن . (تعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث ) كما يقول الامام ، ولا ينبغي الاكتفاء بذلك بل و (وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص ) حسن التلاوة هي زينة القرآن ، وهي تأتي بعد مرحلة التعلم ، فهي كمال في المتعلم ، عبر عن التلاوة الحسنة بالصوت الحسن في لسان الروايات بأنها حلية القرآن وزينته ! وبالفعل فإن للقرآن مديين من التأثير ، مدى يرتبط بالمعنى ، وهذا يتوقف على معرفة اللفظ وإعرابه ، ومدى آخر يرتبط بالأداء والتلاوة الحسنة وهو تأثير غير مجهول ، فكم وجدنا من الناس من تأثروا بسماع آية أو آيات بصوت حسن وتلاوة جميلة ، وكم يخاطب القرآن المتلو تلاوة شجية شغاف قلب المستمع إليه ، ويؤثر فيه .. لقد جعل في القرآن قوة تأثير خارقة بحيث ( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) وقد وجدناه يؤثر حتى في غير المسلمين ، فقد ترى من رهبان النصارى مع عدم إيمانهم بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله ، إلا أنهم ( َإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) . وثانيا : التفقه فيه والتدبر في آياته : لم ينزل القرآن على النبي لكي يعلق حرزا في الأعناق أو يوضع مع الكتب على الرفوف يعلوه غبار الاهمال ، أو يتحول إلى علامة على الموت كما هو حاصل في بعض مجتمعات المسلمين ، حيث إذا قرئ القرآن يتم التساؤل ، وهل هناك ميت حتى يقرأ له القرآن ؟ فصار نصيب القرآن المقابر ، والأموات .. وربما مواضع التبرك وبمقدار حصول البركة .. أما في الحياة العملية فلا أثر للقرآن ولا دور له ! وهذا خلاف ما أنزل القرآن لأجله بشكل صريح ! فإن الله سبحانه وهو المنزل للقرآن على نبيه المرسل يبين وظيفة القرآن والمطلوب من الناس تجاهه ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) .وها هو القرآن ينادي بأعلى صوته في الناس ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) . ويقول أمير المؤمنين  في هذا المجال : وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب . وثالثا : الاستشفاء بنور القرآن من المشاكل النفسية والاجتماعية : وكما يقول الامام ( واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور ) .. وهنا ينبغي ملاحظة تأكيد الإمام على أنه شفاء الصدور إذ هذا هو الدور الأساس للقرآن ، إن القرآن بما هو ذكر الله بل هو أعلى الذكر يصنع الطمأنينة في النفس والقلب إذ ( بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) . ويرى الإمام في نص آخر من كلماته أن الأمراض البدنية مهما عظمت إلا أن أعظم الداء ليس راجعا إلى البدن وإنما إلى النفس والروح والعقل ، ولذلك يقول (فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم ، فإن فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال ) . إن أكبر الداء والمرض العضال هو الكفر والشرك سواء على مستوى الفرد أو الأمة إذ أنه حينئذ يفقد توازنه ، ويعيش من غير تعادل ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) ثم ينتهي مرتطما بأحجار ذلك الوادي ! ثم مشكلة النفاق والضلال ، فإن الفرد يمكن أن يكون صحيح البدن ظاهرا ، ولكنه منافق أو ضال وهذا يعتبر من أسوأ الأمراض ، ويتحدث القرآن الكريم عن المنافقين في سورة كاملة فضلا عن آيات متفرقة في سور متعددة .. قائلا : إنهم من ناحية الظاهر والبدن لا غبار عليهم ولكن المشكلة في باطنهم )وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) فهؤلاء من حيث المظهر الجسمي رائقون ، ومن حيث عذوبة اللسان والكلام لا ينقصهم شيء ، لكن المشكلة أنهم مظاهر فارغة لا روح فيها تماما مثلما أن الأخشاب المسندة فاقدة للروح والإحساس والإيمان ، فهؤلا ء هم كذلك !و بناء على هذا ( هم العدو ) . القرآن الكريم فيه شفاء من النفاق ومن الضلال والغي . وهنا ينبغي أن نشير إلى تضخم حالة سلبية وهي ما يسمى بظاهرة الاستشفاء بالقرآن والتي انتشرت في الفترة الأخيرة في بلاد المسلمين ، ونحن في نفس الوقت الذي نعتقد أن القرآن فيه إمكانات عظيمة متنوعة ، ولكن التركيز على هذا الجانب واتخاذ الأجور الكبيرة على قراءة القرآن لطلب الشفاء ، وارتزاق قسم من الناس بهذه الطريقة ، مستفيدين من حاجة المرضى إلى الأمل وبعض هؤلاء ( المعالجين ) يقرؤون القرآن بشكل خاطئ بنحو فاضح ، مما يعني أن هؤلاء ليس من أهل هذا الفن .. نحن نعتقد أن قسما كبيرا مما هو قائم ، هو تحريف لدور القرآن عما أنزل إليه .. ورابعا : اتخاذه مرجعية فكرية ، تعرض عليها الأفكار والآراء : ما هي نقطة المركز التي تتحدد من خلالها صحة وسقم الأفكار والآراء ؟ وعلى أي مقياس ينبغي أن تعرض النظريات ؟ بعدما كان كل صاحب رأي يرى أن رأيه وفكرته هي الصائبة دون سواها .. كيف نصنع عندما تتعارض الآراء ؟ لا بد من وجود مقياس يقاس به ، وميزان يوزن به الرأي .. والقرآن هو ذلك المقياس وهو نقطة المركز ، فينبغي أن تعرض عليه الآراء وإذا تعارضت معه فليتعامل معها حتى صاحبها على أنها أفكار مغشوشة ، وغير صائبة (واتهموا عليه آراءكم ، واستغشوا فيه أهواءكم ) . ماذا يقول أمير المؤمنين في هذا الجانب ؟ ـ ما هي حقيقة القرآن : ( واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش ، والهادي الذي لا يضل ، والمحدث الذي لا يكذب ). ـ على ماذا يحصل مجالس القرآن ؟ : (وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان : زيادة في هدى ، أو نقصان في عمى ). ـ هل في القرآن غنى عن غيره ؟ : ( واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ، ولا لأحد قبل القرآن من غنى) ـ عمّاذا يشفي القرآن ؟ : ( فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم ، فإن فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال ) ـ هل هو وسيلة إلى الله وشفيع ؟ :( فاسألوا الله به وتوجهوا إليه بحبه ، ولا تسألوا به خلقه إنه ما توجه العباد إلى الله بمثله . واعلموا أنه شافع مشفع ، وقائل مصدق . وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه ، ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه ، فإنه ينادي مناد يوم القيامة : " ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن " فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلوه على ربكم ) ـ هل نأخذ بآرائنا لو عارضته ؟ ( واستنصحوه على أنفسكم ، واتهموا عليه آراءكم ، واستغشوا فيه أهواءكم )