واقع الأقلية وثقافة الأقلية

محرر الموقع
يندر أن يخلو مجتمع من المجتمعات الحديثة من وجود تنوعات ،( عرقية كالزنوج وذوي الأصول الصينية في أمريكا ـ وقومية كالأكراد والأمازيغ والبربر في البلاد العربية ـ ودينية كالمسيحيين واليهود في المجتمعات الإسلامية ـ ومذهبية كالتشيع في بعض البلاد والتسنن في بعضها الآخر .. ) قد تتساوى عددا وهو نادر ، وقد تختلف ، فتكون إحدى المكونات هي الأكثر من غيرها . وجهة ذلك أن مكونات هذه المجتمعات قد ضمت ـ ضمن عمل عسكري ، أو سياسي ، أو توافق اجتماعي ـ ، فلم تكن هناك قبيلة واحدة أو أسرة ، وإنما مناطق ، وتكوينات .. فوجود أقلية وأكثرية في مجتمع ليس شيئا نشازا . في تقرير لمنظمة المجتمع الاسلامي بعنوان ( التنوع الخلاق ) صدر أواخر التسعينات ، ذكر وجود (10 ) آلاف أقلية عرقية ودينية واثنية ومذهبية .. ورأى أن مثل هذا العالم ينفع العالم بتنوعه . • القلة ليست شتيمة كما أن الكثرة بذاتها ليست ميزة : فلا يمكن الاستدلال على كون جهة أهل الحق لأنهم أكثر ، والجهة الأخرى بأنهم أهل باطل لأنهم أقل ! ولا أن الكثرة يجب أن يأخذوا كل شيء لأنهم كثرة ، والقلة يحرمون لأنهم أقل ! • ولا نريد القول أن أهل الحق كانوا عادة أقل ، وأهل الباطل كانوا الأكثر ، أهل الوعي كانوا الأقل ، والجاهلون هو الأكثر .. • وربما مدحت القلة وذمت الكثرة لبعض الجهات ( وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ)(المائدة: من الآية49) • )وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (المائدة:62) وفي المقابل هناك مدح للأقلية ، والقلة : ‏ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)(هود: من الآية40)‏ • ( فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ )(البقرة: من الآية249) ) كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(البقرة: من الآية249) ) فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(البقرة: من الآية246) • ونحن هنا لا نريد أن نثبت أن الأكثرية هي بالضرورة خاطئة ، ولكن نقول : إن الأقلية ليس شتيمة ، ولا يبرر ذلك أن تكون مضطهدة . • فما دامت القلة ليست مشكلة فما هي المشكلة ؟ المشكلة : الثقافة الأقلاوية . ماذا نعني بذلك ؟ الثقافة هي منظومة الأفكار التي تسهم في تشكيل السلوك اليومي للإنسان / والخريطة الذهنية التي تحدد مسار الفرد في حياته اليومية . وتختلف هذه عن العلم والتخصص فالشعور الأقلاوي والمنعزل يمكن أن يؤثر في حامل الدكتوراه كما يؤثر في الأمي .وفي عالم الدين . .( لذلك قد تجد مجتمعا بكامله يعيش ثقافة معينة مع اختلاف مستوياته التخصصية ) . أبعاد هذه المشكلة : 1/ الشعور تجاه الذات : ينتج عن الشعور الأقلاوي هضم للذات وسماح للآخرين بظلمها ، فصاحب هذه الثقافة يقبل بالحد الأدنى من حقوقه ، ويتعامل مع غاصبي حقه على أن ذلك شيء طبيعي ، وقد نلاحظ أن الشيعة في أماكن هم فيها أكثرية عددية لكن ثقافتهم أقلاوية ، ولو أعطي هذا جزءا من حقه لعد ذلك مكرمة ! لو تعامل معه رئيسه في العمل بنحو منصف فإنه يعتبر ذلك نعمة استثنائية ..مع أن ذلك إنما يؤدي وظيفته ! ينتج عنه أيضا أنه لا يطالب بحقه العام السياسي ، بل حتى الشخصي مثل الترقية في العمل ، فلو فصل أو أبعد لا يرى أن من حقه الاحتجاج ، بل إنه ينسحب بهدوء ! وهذا يذكر بقصة جحا الذي هرب من الحمال سارق المتاع لكيلا يطالب جحا بأجرة المتاع المسروق ! 2/ الشعور تجاه الحياة مع الآخرين لا على أساس الشراكة في المكان والمصالح والخيرات ، وإنما شعور القدر المفروض عليه ، وأنه لا بد أن يتكيف مع هذا القدر المفروض ! كأنه نوع من الاكتئاب السياسي . وينتج عن كل ذلك حالة الانكماش والانعزال ، طمعا في المحافظة على الذات ، ويحدث شعور الغربة في الوطن . 3/ الشعور تجاه الغير ، بأنهم كتلة واحدة وأنهم يعملون ضده وضد جماعته ! فيستشعر الضعف أكثر فالغرب الكافر ضده ، وسائر الفرق عليه ، والوضع السياسي يتعقبه ..الخ ، بينما حقيقة الأمر أن العالم هو عالم المصالح ، متى التقت مصلحة هذا الطرف مع ذلك الطرف تحالفا ، ( فكرة المؤامرة .. والبعض يوظف التاريخ لهذه الجهة ، وأن التآمر تم على الشيعة من يوم السقيفة ! والبعض يقنع بما هو جديد ، فهناك بروتوكولات لحكماء صهيون والعالم يسير على طبقها !! وهناك حكومة العالم الخفية ! وما عدا ذلك فهم أحجار على رقعة الشطرنج !! ) .وهذا كله ناشيء من فكر المؤامرة . القضية لا ترتبط بهذا الجانب وإنما القضية تلاقي مصالح الجماعات ، فحين التقت مصلحة الأمريكيين والأوربيين في البوسنة والهرسك مع المسلمين ، تحالفوا ضد المسيحيين الصرب ، ودخلوا حربا ضدهم وساعدوا المسلمين في إقامة جمهورية خاصة بهم .. وهكذا .. كيف نتجاوز هذه الثقافة ، وهذا الشعور ؟ 1/الالتفات إلى ما نملكه من ميزة ثقافية : هناك أقليات لا ثقافة لها ، وهي بهذا لا تستطيع أن تمارس على مستوى العالم دورا يتجاوز حجمها ، مثل الدروز حيث ثقافتهم باطنية .. بينما يمتلك التشيع ثقافة رائدة تستطيع أن تقدم الكثير للعالم ..ولكن المشكلة في إيصال هذه الثقافة للدنيا .. مثال للمقارنة : بلغ عدد الكتب المؤلفة عن هتلر القائد الألماني المعروف من سنة 1945 ـ إلى عام 2000 .. ( 55000) خمسة وخمسين ألف كتاب !! بمعدل 1000 كتاب في كل سنة كما نقلت ذلك جريدة الوفاق .. هل كتبنا ـ نحن المسلمين عن رسول الله هذا العدد ؟ عن أمير المؤمنين ؟ 2/ الاهتمام بالتفوق النوعي : فلا ينبغي الاكتفاء بنصف الأشياء .. والتوقف ، في المجال الطبي ، الهندسي ، التقني ، التجاري ، إذا قال ذلك الشاعر ( لنا الصدر دون العالمين أو القبر ) مفتخرا ، فينبغي أن يقول الواحد منا ذلك من موقع النشاط والهمة . وهذا ما صنعته بعض الأقليات : الأمريكيون من أصل آسيوي نسبتهم في أمريكا 2٪ فقط .. لكن رؤساهم قرروا أن يكون لهم دور كبير في الساحة الأمريكية ، فخططوا لكي يتفوقوا في التعليم والبحث العلمي ، فأصبحوا يسيطرون الآن على 20٪ من التعليم العالي ومراكز البحوث العلمية !