مجتمع الاستهلاك والازمة المالية

محرر الموقع
مجتمع الاستهلاك والازمة المالية أمّ سماحة الشيخ فوزي آل سيف المؤمنين في القطيف ، في صلاة الجمعة وتحدث في خطبتيها عن الدروس المستفادة من الأزمة المالية العالمية .. وتناول في الخطبة الأولى ، ما سماه بالفروق في البناء بين مجتمع صبغة الله ، وبين المجتمع الاستهلاكي .. وهذا تلخيص لما جاء في الخطبة الأولى : 1/ إن من غير الصحيح أن يعتقد الانسان أن هذه الأزمة لا تهمه من قريب ولا بعيد لعدم امتلاكه الأموال المودعة في البنوك ، والصحيح أن الاقتصاد العالمي أشبه بدورة دموية مترابطة في جسد انسان واحد ، فإذا اضطربت في مكان فإنها تترك آثارها على أطرافه ، وإن كانت طفيفة ، إضافة إلى أن على الانسان أن يستفيد من التجارب التي تحدث حوله فينتفع بعناصر نجاحها ، ويتقي عوامل الفشل . 2/ في المجتمع الاستهلاكي يبدأ الأمر من التفاخر والتكاثر انتهاء إلى التظاهر .. فترى الشخص فيه يرى شخصيته في ما يقتني من اشياء وفي ما يملك من سيارة أو منزل .. إلى غير ذلك . ولأنه كذلك ولا يستطيع بما يملكه فعلا أن يفي بكل متطلبات التظاهر والتفاخر ، فيقوم بالخطوة الثانية وهي : الاستدانة والاقتراض ، ويبني حياته على هذا الأساس ، وخصوصا عندما يتوفر له من يسوق الاقتراض والاستدانة باعتبارها الحل القريب والسهل للأمور .. كما نجد ذلك واضحا في البنوك والشركات حيث توظف أشخاصا مهمتهم الأساس هي إقناع الشباب بأخذ القروض ، وبمعنى آخر توريطهم فيها .. إلى بقية حياتهم ! فيستدرج الشخص بإعلانات أنه لا تحتاج إلى كفيل ولا إلى دفعة أولى ولا .. بل لا تدفع في الشهور الأولى الثلاثة وهكذا .. حتى يدخل الشاب في هذا النفق . 3/ المشكلة التي تجلبها الاستدانة والاقتراض هي أن هذه الاستدانة مبنية على اساس الاقتراض الربوي ، وعلى تراكم الارباح ، فإن أسهل القروض الشائعة اليوم تتجاوز أرباحها الربوية 30 % ، والعادة أنها تستوفيها مقدما يعني أن الانسان في ثلث الفترة الأولى هو يسدد أرباح البنك أو شركات الاستثمار والاقتراض ، ولا يتملك شيئا من القرض خلال هذه الفترة .. تتضاعف المشكلة عندما يوقع المقترض العقد من دون أن يقرأ بنوده كاملة أو لا يلتفت إليها بشكل جيد ، إذ ينص فيها عادة على أن الارباح أيضا خاضعة للتضخم ، وتتصاعد بنسبته أيضا ، ويقال للشخص أن القانون لا يحمي المغفلين وهكذا .. يستيقظ الشخص الذي كان يريد التباهي والافتخار ، بعد مدة من الزمان فيرى نفسه مكبلا بالقروض التي تتصاعد ولا يملك قدرة على تسديدها فيضطر أو تضطره الشركة الممولة أو البنك إلى بيع ما اقترض من أجله ، بثمن بخس لكيلا لا يستمر في دفع الأقساط ، وهكذا تراه خسر في الجهتين .. في المقابل يبني الاسلام مجتمعه ضمن توجيهات أخلاقية تحمي هذا الانسان من النتائج السابقة : فتوصي التوجيهات الدينية بالقناعة ، وتصفها بالحياة الطيبة كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في تفسير ( فلنحيينه حياة طيبة ) قال هي القناعة . وتصر على أنه ( ما عال من اقتصد ) أي ما افتقر من توسط في الانفاق .. تقول له أنت لا تحتاج في بناء شخصيتك للأشياء الغالية .. ليست جزء شخصيتك .. فكم من صاحب مال عظيم لا شخصية له ، وكم من غير مالك له الشخصية الكبرى ! كما تبين كراهة الاستدانة .. من غير حاجة .. بل إذا كان الانسان بانيا على عدم التسديد لا يجوز الاقتراض والاستدانة ، نعم لو كان محتاجا حاجة حقيقية كتعليم أولاده ، أو بناء بيت السكن له ، أو قوت عياله ، وما شابه من الحاجات الضرورية ، ترتفع الكراهة بمقدار شدة الحاجة .. إن بناء الانسان على الاقتراض والاستدانة كطريق لحل المشاكل ، هذا البناء لا يلبث أن ينهدم على صاحبه ! فـ ( إياكم والدين فإنه مذلة بالنهار ، مهمة بالليل ، وقضاء في الدنيا وقضاء في الآخرة ) كما في الحديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام . كما يمنع الربا الذي هو الأساس في القروض اليوم ، ويرى عدم جواز الربا أخذا وإعطاء ، فـ ( درهم ربا أعظم عند الله من سبعين زنية كلها بذات محرم ) ! ويبني الاسلام نظامه على أساس إنظار المعسر ( فنظرة إلى ميسرة ) بخلاف النظام السابق الذي يقول عندما يتعسر الأمر على المقترض إنها مشكلتك وعليك أن تجد حلها وليست مشكلتي ! يأتي الاسلام وينصح الدائن بأن ينظر المعسر ويعينه بالتأجيل ، ويعتبر المشكلة مشكلتهما معا ! وإذا كان النظام الاستهلاكي يقول : إن القانون لا يحمي المغفلين ، فإن قانون الدين يحاول حماية من استغفل ، ومن غرر به ، ومن خدع ، فيسلطه على فسخ العقد بخيار الغبن ، وينهى أخلاقيا عن الغرر كما ورد في الحديث أن النبي نهى عن الغرر ( أو عن بيع الغرر ) . الخطبة الثانية : استكمالا للحديث السابق فقد تعرض سماحة الشيخ إلى جانب من الأزمة المالية العالمية التي حدثت في أمريكا ـ مع تأكيده على أن القضية أشد تعقيدا وتشابكا من هذا الحديث وتحتاج إلى دراسات وخبراء ، ولكن الحديث التالي لتوضيح ما الذي يخلفه النظام الاقتصادي السيء على المجتمع ـ : أ / تبدأ القضية فيما سمي بأزمة الرهن العقاري بأن يقوم عميل البنك أو شركة الاستثمار بترغيب العامل ذي الدخل المحدود بشراء بيت أو سيارة أو الذهاب إلى سفر ، وبطبيعة الحال فإنه لن يعمل ذلك قربة إلى الله وإنما لكي يأخذ عليه ارباحا للبنك ويأخذ نفس العامل زيادة لأنه كسب زبونا جديدا .. ويخبره بأنه ستؤخذ منه بعض الفوائد على مدى بعيد وأنه بدلا من أن يدفع إيجارا لمالك العقار ، ثم يخرج منه بعد عشرين سنة فإنه بهذه الطريقة سيتملك بالتدريج البيت , ولا شك أن هذا عرض مغر جدا ! ب/ يفوت عن الزبون أن الأموال التي تؤخذ في السنوات الأولى منه كاقساط هي أرباح البنك أو شركة الاستثمار وأنه لم يتملك خلال هذه الفترة أي شيء وما فعله إنما كان تسديد أرباح البنك التي تؤخذ مقدما ، كما يفوت عنه أنه قد ذكر في العقد أن الأرباح تتأثر بارتفاع مستوى التضخم في البلد ، وأنه ما لم يسدد الدفعات فإنها تتضاعف عليه بنسب مئوية .. وهكذا . ج / بعد مرور فترة من الزمان ، وعلى اثر التضخم قد لا يستطيع هذا الشخص أن يسدد كامل ما عليه من الأقساط وهذا يعني أنها تتضاعف عليه وتتراكم .. فيتوقف عن التسديد . د/ يقوم البنك ببيع البيت مع قرضه إلى شركة أخرى لأن تجارته تعتمد على هذا الأساس ، فيبيع البيت بأقساطه إلى شركة أخرى بقيمة أعلى من قيمته الحقيقية ولنفرض أنها بمقدار 20% كزيادة ... فأصبح البيت مباعا مع أقساطه الباقية إلى تلك الشركة الأخرى التي تقوم هي بدورها ببيعه إلى أطراف أخر , وهكذا .. ربما جرت على البيت بيعات متعددة وكل جهة ترى أن البيت لها ، من الزبون الأول إلى البنك الذي باعه ، إلى الشركة الثانية وهكذا .. هـ / مع توقف الزبون عن التسديد للأقساط يطلب المشتري الأخير ـ شركة الاستثمار ـ من الشرطة أن تخرج الزبون من البيت ، لعدم تسديده ولأن البيت ملكها ، فيخرج ، ولكي تسترد قيمته التي دفعتها تعرضه للبيع ، غير أن لا أحد يشتريه لأن القيمة المعروضة له أكبر بكثير من قيمته الحقيقية ، ولأن عددا هائلا من البيوت هي معروضة للبيع ولا أحد يشتريها ! فتنزل قيمته حتى عن القيمة الحقيقية نظرا لعدم الطلب عليه ووفرة العرض ! و / على أثر عدم البيع لا تستطيع الشركة أن تسترجع ما دفعته بمئات الملايين من أموال المودعين فيها ، فتعلن إفلاسها وهي محمية بحكم القانون الأمريكي ، فتذهب أموال المودعين هباء منثورا .. وهنا مشكلة كثير من الأموال ( الاسلامية ) التي اختارت الطريق الذي ظنته سهلا ، أنها تبخرت ، فبدلا من أن تنفق في مشاريع تصنيع أو تعليم أو زراعة أو بناء في البلد ، فتحرك الاقتصاد من خلال وظائف كثيرة ، وتحقق التنمية العمرانية أو الصناعية أو الزراعية ، ها هي تصبح رقما ضائعا في هذه الأزمة .. إننا ندعو إلى أن تتحول هذه أموال المسلمين إلى عمل إنتاجي في منحى من مناحي المجتمع بدلا من أن يختار أصحاب المال الطريق السهل في ظنهم ، والذي يفوت على المجتمع التنمية ، كما قد يفوت على رب المال رأسماله كما حصل في الأزمة السابقة للأسهم وما هو حاصل اليوم .